منامات محمد ملص في«مذاق البلح»
سامر محمد اسماعيل
«اليوم شفتك بالمنام في دهليز طويل، وكنتِ كامرأةٍ من الشام تقف وسط الدهليز حافية القدمين، وقد انفلت الزر العلوي في ثوبها، وبان شيء من صدرها الأبيض، وهي تنحني وتسفح الماء على الرخام المعروق»
ليس غريباً أن تحضر المنامات بكثافة في كتابه «مذاق البلح – صادر حديثاً عن دار رفوف للنشر بدمشق» فالسينمائي المشغول ببصرياته المتنوعة في إطلالاتها على الحياة السورية، ما زال ينبش في ذاكرة الأمكنة محوّلاً إياها إلى أزمنة فيلمية، وهوفي ذلك يقتفي شريط حياته السينمائي بكل ما أوتي من قوة وتركيز وجداني وعقلي، ففي مساحة «غرفته المضيئة» ما يزال محمد ملص يدلف من غرف المونتاج إلى حجرة تشغيل الأفلام، يتفقد حياته الأصلية، لكنه لا يجدها إلا على هيئة أفلام متداخلة، منها ما أُنجز، ومنها ما ينتظره، وما بدلتْ تبديلا، هكذا سيحلم الرجل وهو يمرر أرشيف مناماته على بكَرةِ العمر بأستاذه تالانكين مشرفاً على سنوات دراسته بمعهد موسكو العالي للسينما، ليتبدى له معلمه الروسي في صورة جده لأمه: «كان تالانكين في المنام عصبي النظرة، ويرتدي لباساً داخلياً، وكأنه الجد في فيلم أحلام المدينة، يحوص تالانكين بلباسه هذا، في قاعة تبدوكأنها زنزانة جماعية في سجن قلعة دمشق» هذا المشهد لن يكون أقل غرائبية من مشهدٍ آخر يرويه ملص باندهاشٍ كبير «في المنام شاهدتُ أمي، وقد تزوجت رجلاً يشبه كثيراً ذلك العامل الذي ينقل على عربته الصغيرة الأفلام من مستودع مؤسسة السينما إلى الصالات وبالعكس..»، بين حلمه الأول الذي دوّنه عن مشاركته كعضو لجنة تحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي 1986، وحلمه الثاني في مفكرة برلين 1998 أثناء اشتغاله مع المخرج العراقي قيس الزبيدي على مونتاج فيلم «حلب مقامات المسرّة» عن شيخ الطرب الحلبي صبري مدلل؛ يسرد صاحب فيلم «فوق الرمل تحت الشمس» ما يشبه سيناريو أدبياً عن حياته، حيث لا يمكن التوقف كثيراً عند أسماء بعينها قبل النفاذ إلى مزاج أدبي خاص في لغة تقترب من الرواية البصرية، رواية تتبدى فيها تحولات السرد بين الواقعي والمتخيل والافتراضي، تتفتح هنا مشاهد العمر على سينما أخاذة ومؤثرة، ضمير المتكلم هنا ينزع نحو كتابة توليدية تحيل كل شيء إلى صورة، فيما تعمل حساسية هذا الأدب السينمائي على منتجة الذكريات دافعةً بها إلى شاشة الوعي بالأشياء والعالم كسلالة من صور لا تنتهي وفق تعدد الذات الروائية وتحولاتها.
يفتتح السينمائي السوري كتاب مناماته ببورتريه شيّق لصنع الله إبراهيم، يوم جمعتهما الغرفة 403 في معهد موسكو، والصداقة الكبيرة التي بدأت بينه وبين صاحب «تلك الرائحة» بعد رواية هذا الأخير لقصة اعتقاله عام 1959 كشيوعي مصري مناوئ للناصرية، تحضر في «مفكرة موسكو» أحداث كثيرة تعكس الحياة السوفياتية في عهد بريجنيف، لا سيما بعد اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، فيما تتجاور الخطط الروائية لصاحب «نجمة أغسطس» مع سيناريوهات المخرج السوري، تتقاطع وفق مبدأ التزامن بين الصوت والصورة قسمات ذلك الدور الذي أعطاه ملص للروائي المصري في فيلم بناه من ذكريات السجن، وحكايات اعتقال المثقفين المصريين؛ خطوات أولى نحو سينما تقيس المسافة بين سرعتين؛ الصوت إلى الأذن والضوء إلى العين، مع قصاصات جرائد الأهرام والجمهورية التي عكف صنع الله على استخلاص مادته الروائية منها، تجارب عدة يخرج بها ملص مع صديق غرفة الدراسة، مشاويرهما تحت ثلج موسكو السبعينيات، فبينما يكتب صنع الله مفكرة عن سجنه صارخاً: «ياعالم أنا عايز امرأة» يفكر ملص في الأخبار الكاذبة عن انتصارات حزيران 1967 التي كانت الصحف المصرية تدسها إلى المثقفين داخل السجن: «في استعراض صنع الله للصور والنماذج والأفراد، أدركتُ أن هذه الحمى لدى النظام في القضاء على هؤلاء، استهدفت خيرة المثقفين والمبدعين الفعّالين في حياة المجتمع المصري، وجعلتني أتوهم أن كل المثقفين المصريين شيوعيون».
يشكل الحلم مادة لفسيفساء سردية في كتاب يفتح عدسة المخيلة على ذاكرة ملص المشتهاة، فمن سيرة الشاعر الأرمني «سيات نوفا» في «لون الرمان» لمخرجه برادجانوف، إلى روزا لوكسمبورغ، وآراء رولان بارت في الفوتوغرافيا يتبع صاحب «المنام» حيواته الأخرى، يسير على طريق فيليني مستيقظاً من نومه ليدوّن أحلامه، لكن السينمائي السوري يبرع في إنجاز اللقطات العامة، اللقطات المسرنمة لعالمه المتخيل، ففي حجرة تحميض الأحلام هذه يسترخي إلى مذاق مناماته، إلى تشظي اللقطة من جديد على هذا النحو جاعلاً من «العين عدسة ومن الفوتوغراف مناماً»، لما لا و«الأحلام هي الحقيقة الوحيدة» حيث يتشابك ملص على طريقة «جاروميل»بطل رواية «الحياة هي في مكان آخر» لميلان كونديرا، الحلم داخل الحلم، السينما داخل السينما، الصورة داخل الصورة، وهكذا إلى ما لا نهاية، ليصير من الصعب التوقف عند الصورة الأصلية، ربما هوعالم العجائب، غابة المرايا التي يسرح الكاتب بين دهاليز متاهاتها البصرية، ليتحول الواقعي إلى ما يشبه الأسطورة: «كان ميشيل سورا أشبه بحبات مطر على نافذة بيته الأبيض، يطل عبر زجاجها ليرى هل عزمنا على تحقيق فيلم ما، أم ما نزال نقلّب الأمور بعد، ليعرف أيضاً هل انتهت زوجته من احتذاء حدوة الحصان..بينما كانت رندة الشهال تطلق زمور سيارتها في الأسفل، وتنادي من وراء زجاجها أن نهبط لتأخذنا إلى أماكن التماس، «الليتموتيف» المتكرر لبيروت في النهار وفي الليل من عام 1982».
في «مذاق البلح» تبدورغبة ملص قوية لمنتجة المصائر والشخصيات التي مرت في حياته، فمن مفكرة إلى أخرى تتكشف لحظات سحرية، كواليس لجان تحكيم المهرجانات السينمائية، فمن خلال انفتاح النص على أزمنة متعددة يسرد لنا المؤلف في «مفكرة برلين» تفاصيل عن حياة عابقة بإطلالات سينما الطريق، سينما تطل منها عيونه من وراء نافذة قطار يحاذي الوجه الشرقي لسور برلين، إلى مهرجان لايبزيغ للأفلام الوثائقية عام 1986، تعاود كاميرا النفس استعادة طريقها بين ألمانيا شرقية وغربية: «الإشارات المرسومة على طرفي الطريق، تشعرك بهذا الانشطار بين الألمانيتين، فترى بعينك معنى التمزق، وقد بدا لي هذا التقسيم أشبه بديكور سينمائي لأداء مشهد (الأمة المذنبة)» لنصل بعدها إلى مقطع «سينمائيون في البيجامات» فنركب مع الكاتب في قطارٍ آخر، حيث يتراجع الزمن إلى رحلة أقلّته ذات مساء من باريس إلى مهرجان مونبيليه السينمائي، قطار ليلي لأسئلة يطرحها الرجل على نفسه، عن المرأة، قصص الحب والجسد، المصادر الشخصية والذاتية للإحساس بالشهوة، المرجعيات المرئية والحكائية لظهور الشهوة والإحساس بها، أسئلة عن نساءٍ يثرن الشهوة ويؤججنها عبر سنوات العمر وقطاراته المتتابعة، هي الذاكرة البعيدة لسينمائي يصوّر مناماته على إيقاع اهتزازات قطار ليلي: «تذكرتُ ركبة يترجرج على انطوائها لون لهيب الموقد، وحلمة ضاقت بانحباسها فانفلت الثدي من حمّالته، وساقاً بيضاء تصعد إلى السماء على سلمٍ خشبي».
لا يترك صاحب «باب المقام» حياةً خارج مناماته، حتى تلك التي تطبعها الذاكرة على هيئة سخرية لاذعة تبدو في الكتاب أكثر قرباً وفق الركون إلى ساعة الحلم، تقديمها من حيث كانت قد انتهت، محاولة لتفادي معنى «الحياة كنوع من الأدب الرديء» كما يقول ماركيز، لكن المنامات تتواصل مستغرقة في زمن الحكاية السينمائية، في «الرشز» العام للعيش السينمائي، تحويل الأشياء إلى رشز كما يقول المؤلف في مناجاة داخلية بينه وبين صديقه المخرج قيس الزبيدي، أو كما يطيب لبريخت أن يقول: «التفكير هو التغيير». من هنا يمكن ترجيع الزمن في يوميات البلح ومذاقاته المتعددة، إلى مذاق آخر من مذاقات الاستدعاء المرير، استحضار روح المسرحي السوري الراحل شريف شاكر، ففي بورتريه خاص لصديق الكاتب عنونه على النحو الآتي «لا يحدث للإنسان ما يستحقه بل ما يشبهه»، يتم الانتقال إلى عام 1968 ولكن هذه المرة على متن طائرة من دمشق إلى موسكو، يلتقي شاكر وملص للمرة الأولى كطالبين سوريين يغادران وطنهما في منحة للدراسة، ليهبطا على خشبة مسرح «تاجانكي» في عرض «ساعة الخروج» للمخرج الروسي الكبير لوبيموف، كانت ضحكة المسرحي الراحل مجلجلة تحت ثلوج موسكوعندما حمل البوح ملص على التفكير بأداء دور هاملت: «اسمعوا..حين اقرأ اليوم في مفكرة موسكو كلمة ريبرتوار، أراكَ تصعد أدراج المؤسسات الرسمية، وتقرع أبواب الإدارات..تهبط أدراجاً وأنت تردد على مسامع الجميع سعيك هذا لتأسيس ريبرتوار لمسرح سوري، فأحس أننا كلنا في هذا البلد نشبه ذاك الذي كان يوماً يسير في شوارع دمشق ويردد: يا عصفوري! يا عصفور!».
وكما يؤكد الكاتب على حاجة السينمائي إلى وحدة الأحاسيس في كامل مراحل تحقيق الفيلم، يعود ملص إلى لقطات ولوحات وومضات متنوعة بشخصياتها وأحداثها وأمكنتها ورواياتها، ليس أدب السيرة الذاتية، بل هي الرغبة في تحقيق وحدة الأحاسيس اتجاه المنجز البصري، الهاجس الدائم برفاق الدرب: «عمر أميرالاي الذي يطل من مفكرة العطالة يبدو هنا أكثر شباباً وفتوةً، جنباً إلى جنب مع ميشيل كيلو: «في ذاك النهار جاؤوا إلى بيت أبو الميش وأخذوه، وفي المنام كانت المساجد تشبه المتاحف المليــئة بالمرايا، وأنا تائه داخلها في عالم من الانعكاسات المتقابلة والغريبة».
إذاً هي الرغبة لدى محمد ملص في التوازن من جديد كما يقول بين الممكن والمراد، حتى لا يصل القلب إلى «الأربعمئة ضربة» كما في فيلم فرانسوا تروفوالأول، الحد الأقسى لاحتمال هذه العضلة اللاإرادية، ربما لهذا ينهي الكاتب مفكرة عطالته بمنامه التالي: «في الليل شاهدتُ نفسي وأناساً آخرين في المنام، كنا كأننا قطع من القماش المسقسق بالماء، ومنشوراً على سلالم ملتفة من الخشب، كانت تبدو وكأنها سلالم مئذنة ما، وكلنا نطل بأنظارنا إلى الأعلى بفرح منتظرين شيئاً ما أو أحداً ما، حين تناهى إلينا نداء من الأسفل، التفتنا إلى القاع، فشاهدنا ذاك العجوز الذي نحبه، وقد خرج الآن من السجن، فتصادت أنغام: سوريا يا حبيبتي، أعدتِ لي كرامتي! وملأت المنام».
(كاتب سوري)
السفير