منمنمات سورية
نبراس شحيّد
في حقائق الهذيان
مدّتْ حليمة يدها بين فخذيها لتتلمّس تضاريسها الجديدة. لقد تشظّى غشاء بكارتها إرباً، شوارع، مدناً، حين مزّق الجنود ثيابها واغتصبوها. انهمر حزنها المالح مجدداً من عينيها، ومعه انسابت أصابع، بالذاكرة ملوثة، لتعبث بجسدها الممدّد، حوله تدور أسراب الجنود. أصابع تنعق كالغربان، تلاحقها، تحاصرها، وأصابع أختها تلهو بشعرها لتهدّئ من روعها. “لقد رحلوا، ورأينا البارحة جثثهم”، تقول الأخت الكبيرة، لكن حليمة لا تسمع وتعود إلى الهذيان. “جسدي دمشق، حليمة دمشق وحلمةٌ تُرضع ثوارها ألماً ونوراً”، تتمتم الفتاة. “القتلة هلكوا، حليمة لا تجزعي” تتلعثم الأخت يائسةً، “لكن أريحا تؤلمني في خاصرتي” تردد حليمة، “في أحشائي تثور حمص، وفي رحمي يُذبح أطفال داريا”. يرتجف جسدها، تبكي الفتاة ويدها على الزجاج تتلقف ارتجاجاته، فيسري في بدنها قصف الأحياء المجاورة، وتهتز حبالها الصوتية بصراخ نسائها. تفرغ حليمة دموع دمشقها المبلولة على لحم أختها حتى تغفو من التعب، فترى في حلمها ثيابها الممزقة وعسكراً يحوم حولها، وجنديٌّ ثمل يقول: “أنا الميت رقم سبعة أعلن انشقاقي عن عالم الموتى وهذه أصابعي!”
صمتاً فأمّي على الاسفلت نائمة!
رسمت البنت على الاسفلت جسد امرأة كبيرة. جعلتْ لها جديلتين ووجهاً ضاحكاً. خطّت بالطبشور فستانها، ورسمت عليه قلوباً كتلك التي تزيّن قميص نوم أمها. أحاطت المرأة بسرير كبير يتّسع لأطفال الحي الصغير. أشارت إلى بقية الأولاد من حولها ليصمتوا، فالأم نائمة ولا يحق لأحد أن يصدر صوتاً! أمرتهم بالتمدد على السرير الكبير فأطاعوا. أما هي فخلعت حذاءها، شبكت أصابعها بأصابع امرأة الطبشور الميتة ونامت على حضنها الاسفلتي، والأولاد يترقبون تنفسها بصمت. لكن أصابع سوداء أتت من بعيد لتعبث بالمرأة، بالطبشور، بالفتاة، بأريحا، فتصرخ حليمة لتستيقظ من نومها، فتجد أختها تعبث بشعرها، تداعبها، وتؤلمها من جديد خاصرتها، فتهذي (فكرة الحلم هذا مستوحاة من صورة تناقلتها صفحات التواصل الاجتماعي وفيها تنام فتاة فوق صورة أمها في الشارع “طفلة تغفو في حضن أمها”).
حمادة، قصيدتك تحرقني!
“جميع من أعرفهم بكوا أول مرّة تظاهروا فيها. جميعهم بكوا إلا أنت، فقد بقيتَ تتفاخر بجفاف عينيك مدة طويلة. لكني حمادة كنت الوحيدة التي اكتشفَتْ كذبك! أتذكر؟ فاجأتُكَ مرّةً والدموع في عينك أمام جدار في سراقب، عليه كُتبت قصيدةٌ بلون الدم. كنتَ تبكي بمرارة لأنهم قصفوا أريحا. طلبتَ مني يومها ألا أفضح دموعك فوعدتك. لكنك حمادة تمدّدت بعدها في عتمة السجن وغبت. لا أعرف إن بكيت هناك، لا أعرف! كل ما أعرفه هو أنهم جلبوك لنا من المعتقل جثة، وأصابع يدك اليسرى مبتورة. أما أنا فقد بكيتك طويلاً حمادة حتى جفّ جسدي، ولم يبقَ مني إلاّ قصيدتك تحرقني: “أريحا، تاهت عيناي بين حمرة الدماء في خاصرتك وحمرة الكرز الموعود بالحرية. أريحا، قطافك حرية، يا حزينة الجبل” (القصيدة موجودة على أحد جدران سراقب). لم يبق منك حبيبي إلا دموعك التي حبستَها تسري في وريدي، لم يبقَ من أمي إلا فتات الطباشير التي علقت على الاسفلت، لم يبقَ من المدينة إلا جسدي يشعّ قصيدةً بلون الكرز. لذا، كلما أغمضت عيني ذكرتك حمادة، وحلمت بامرأةٍ من طبشور، ورأيت حولكما أصابع مبتورة، وأصابع ملوّثة، وأصابع، أصابع، أصابع، فتوجعني خاصرتي وأنزف مدناً محطّمة. حمادة!”
هذه كانت قصاصة الورق المخبّأة في قرآن حليمة، جلبته أختها لتقرأ عليها سوراً كريمة حين أغمضت حليمة عينيها فصار جسدها مدينةً بلون الكرز.
راهب يسوعي سوري
النهار