من أوراق ناسك مجهول: د. حسان عباس و طريف الخياط
حسان عباس وطريف الخياط
بحثت عنه في كل مكان، ذلك الناسك الحكيم، المتفرد كجوهر صرف. الصلب كصخرة في بحر يتلاطمه الجنون. المتشكك حتى في ذاته، و الذي لا يملك ثروة إلا نفسه، فيزدريها!..
كانت تصلني رسائله باستمرار.. أفهم الرسالة، و أقيدها “من مجهول”..
بيننا أرشيف مهيب، بعضه وصلني مكتوبا، و منه ما نقل و ينقل شفاها، أو يتراءى لبرهة كطيف رقيق، أمد يدي نحوه، فينسل بين أصابعي، كعبق تشمه و لا تقبض عليه..
ليست تلك الرسائل حكرا على أحدنا. فهي تصلنا جميعا، لكن أكثرنا لا يلتفت إليها..
قصاصة من أوراق ذلك الناسك المجهول، حصل عليها الصديق د. حسان عباس، ضمها بين كفيه كجوهرة نادرة، يعرضها فرحا على الناس و يشاركهم بها.. و كما الحياة للجميع، و الهواء للجميع، و الماء للجميع، و الطعام للجميع، و السعادة و الفرح للجميع، و الحب للجميع. كذلك تلك الجوهرة، هي للجميع..
***
كتب ناسكنا في القصاصة الجوهرة:
“أقوم من ليلي. أفتح نافذتي لأرى ما تركه مرور الإلهة في المعبد من أثر. فلا أرى غير الخفافيش.
سأعود إلى النوم قانعا بحقيقة الخواء.”
سألت حامل الجوهرة، متفحصا نقاءها: هل تمرّ الآلهة عادة هناك؟ أم أن بعض النساك يفترضون مرورها، يقتنعون به ثم يبنون عليه.. لقد عاد ناسكنا إلى النوم كما أفعل كل يوم..
فأجابني حسان: قال لي الناسك يا صديقي طريف إنه لم يقتنع يوما بقصة مرور الإلهة، لكنه لا يريد أن يفقد الأمل.
***
عرفته حينها.. و أدركت أنه المتوجس من اليقين، فأردفت:
– إنه الناسك الذي لا يملك من الأجوبة إلا القليل، و لا يقنع إلا ببعضها، لكنه على الأقل يجهد في البحث في بقيتها.. لا بد من بعض الأمل، كي يصارع حيرته التي تنهش نومه الهادئ..
سيستيقظ في الصباح التالي، و يعيد رفع الصخرة مرة أخرى، كإيزيس و ليس إيزيس. هو يرفض أن يتماثل معه، فكل يوم تكبر صخرته، يتغير شكلها، لونها، خصائصها. و يحملها.. سيبلغ مراده يوما.. سيسلم أوراقه لناسك آخر، و يسلمها الأخير لآخر.. و هكذا، يمضون في درب يستشرف ألف عام قادم أو يزيد..
– آظن أنه لا يقنع بأي جواب.. أظن أنه يتساءل حتى عن يقينية وجوده. وأظن أخيرا أنه لو أصابت هذه الحيرة كل الناس لانتفت عجرفتهم بامتلاك الحقيقة، ولتلاشى العنف في الدفاع عنها.
***
ناسكنا لا يرسل فيضه إلى الجميع بذات اللون.. يتعفف عن النمطية التي تأسر جمال التفرد و التمرد.. رسائله لحسان تدفعني أن أستغرق بتفحصها و سبرها، و أن أسمح للفضول بطرح الأسئلة و الإبحار في ما وراء الكلمات:
– يبدو أنه يعود بنا إلى البذرة الإدراكية الأولى، رافضا كل يقين، حتى ذلك المرتبط بوجوده المادي المحسوس.
يريد أن يستكشف الكون و الكينونات مستعيدا لحظة كانت فيها دهشة الوعي الأولى.
إنه يقوم بثورة. يطمح أن يبني بنيانا مختلفا و نظرة أخرى.. فيخلع عن عينيه نظاراته، و يستشبه بخيالات دستها في الصورة. ربما دون أن يشعر أو يريد..
إنه حي، فوحدهم الأموات الكسالى، من يدعون امتلاك الحقيقة، يعوضون عن كسلهم ببعض العجرفة، و يلجؤون إلى العنف كرد فعل يحفزه الخوف.. الخوف من أن يهدم يقينهم الهش و المفترض، فيغزو لياليهم الأرق..
لكن مهمة ناسكنا صعبة، فهو يهدم يقينهم و يقينه في ذات الوقت، يرفض منطقهم و يعيد النظر في منطقه، أي أنه ينطلق من اللامكان و اللازمان و اللاابعاد. سيتعب كثيرا لكنه سيتحرر من أي قيد..
بودّي لو أسأله: هل هناك حقيقة؟ و بتحديد أكثر، هل هناك ما هو مطلق في حياته خلا الولادة و الموت؟ و هل لا زال يعتبر الأخيرتين حقائق مطلقة، أم أنهما أيضا في معرض سياقات أخرى يحاول استكشافها مجددا؟
كم هو عظيم هذا الناسك…
– حوّلت له استفساراتك فابتسم وقال إن من يطرح هذه الاستفسارات لأكثر نسكا منه. وقال إنك فهمت تماما ما يريد الوصول إليه. إنه يشك بكل حقيقة، ولولا أنه يمسك بريشة الكتابة لشك بوجوده ذاته. قال إنه يرأف، ويتعذب في الوقت ذاته لحال أولئك القانعين بحقيقاتهم، بل وردد: “طوبى للمؤمنين فالأرق لا يزورهم”، واضاف: لكن إيمانهم كارثة لأنهم يبنون أوهامهم على وهم اليقين. وعندما ستتكشف لهم هشاشة هذا اليقين سيهوي إيمانهم وسيحدث دويا لن تقوى ارواحهم على تحمله.
يقول إنه يريد أن يكون حرا، لأن الحرية هي الحقيقة الوحيدة لديه، لكن ما يراه من عذابات البشر يمنعه عن قبول اعتناق تلك الحقيقة. إنه يرى أن خيار الحرية هو الأمانة التي طلب الله من الإنسان حملها فحملها لجهله بمعناها. الحرية هي المطلق الوحيد في حياته، وهي قيده الأعظم، لذلك، يقول، إنه لن يقدم على الانتحار، ويضيف: لو سألني الله (على فكرة حتى الله بالنسبة إليه مسألة نسبية) قبل ولادتي إن كنت أرغب فيها لأجبته: بلى. فهو يرى أن الولادة والموت هما نقطتا تحول الحقيقة من شكل لآخر لأن لاشيء يفنى، بل كل شيء يتحول فالولادة تحول من حال إلى حال اختبار الحقيقة، والموت نهاية فترة الاختبار للتحول من بعده إلى حال آخر.
أما عن عظمته، فهو يطلب مني بإلحاح أن تتراجع عن منحه أي قيمة، لا إيجابية ولا سلبية، ففي حيرته الدائمة لا يعرف أي معيار يصح أن تقاس به نفسه.
وأخيرا (وهنا الكلام لي) سأترك لك يا طريف عنوانه. فأنا لست إلا رسولا بينكما….
***
لناسكنا تواضع من ورد مختلف و خاص، لم يرقه المديح الذي يفرز الغرور، و خشي أن يصيبه بداء ثم مقتل.. هو حر يبشر بالحرية، ضمن مساحة تبدو ضيقة و محكومة بفناء جسد. تلك هي بعض الحقيقة فقط.
– لقد منحت ناسكنا قيمة لا أملكها، لا أدركها، و ربما، لا أعترف بوجودها و لا أملك الحق في إطلاقها.. منحته إياها كتعبير عن الإعجاب، و احترام الأمانة التي حملها، فإنها -أي الحرية- وُجدت مع لحظة الإدراك الأولى، قيدناها حينا و أطلقناها حينا.. هي كالجسد نقرّ به و نتوجس من رغباته و حاجاته، هي مثله جزء من تكويننا الواعي، و كلاهما يصارع البقاء إلى الرخاء.
على الجسد أن يحفظ وجوده خلال إطار حياته المتاح، و أن يسعى إلى الأبدية باستمرار النوع عبر التكاثر. و على الحرية، الملازمة لوعيه بذاته، أن تسعى إلى الأبدية. ليس بصورتها البدائية بل كخلاصة فكرية غير نهائية، تعمم على كافة مناحي الحياة و تتدخل في كافة قوانينها، و تستمر بالتمرد و التطور..
أما عن عنوان ناسكنا، فأنا أيضا لا أتحدث عن نفسي، بل هو ربما ذات الناسك، يحدثنا من خلالنا.. أظن أنه أيضا يبحث عن ذاته و عن تعريف لها، كما يبحث عن معارف تخصها و تخص كل شيء..
هو المتمرد على كل عنوان يؤطره، فيؤسر حينها، و لا يأسر بسحره..
***
و عندها أراد حسان أن يؤكد شيئا، و يتشكك بأشياء أخرى.. فكما يصارع ناسكنا الضباب، نتخوف من ضبابه.
– يخيل لي يا صديقي طريف أنك عرفت ناسكنا. إنه، كما عهدته، لا يزال يعتقد أنه كان هنا عندما بدأ الوجود، وأنه يبقى هنا بعد أن تنتحر البشرية. تشاؤمه يقلقني كثيرا لولا أنه يفلسف الأمر ليقنعني بأن تشاؤمه ضرورة له لكي يبقى محافظا على القدرة على العمل والعطاء. عنده قناعة بأن الضد لا يعرف إلا بضده لذا فهو يتشبث بنكران ذاته ليؤكد وجودها. هو يقول إن أسمى لحظات حريته عندما يكسر قيد وجوده الأكثر وجودا: هو ذاته. عندما سألته:من أنت؟ قال: أنا بذرة القمح التي تتحرر من وجودها فتمنحه لمئات الحبات الجديدة. ثم سألته: ألا تريد أن ترى المصير؟ قال سأراه بعيون ذريتي…..
– ***
لناسكنا ذرية، لا بد مستمرة كواحة تكبر في صحراء.. ذلك ما سماه الحكيم أملا..
خاص – صفحات سورية –