من “الأخ الكبير” إلى المتصفح الأكبر!
صبحي حديدي
“1984”، رواية البريطاني جورج أورويل الشهيرة التي نُشرت سنة 1949، عادت إلى الصدارة مؤخراً، وعلى نحو فريد حقاً: تضاعفت مبيعاتها بنسبة 6000 بالمئة، خلال أقلّ من أسبوع؛ وكانت تحتلّ المرتبة 7636 للكتب الأكثر رواجاً على موقع “أمازون” الإلكتروني، فانتقلت إلى الموقع 18، دفعة واحدة، وهي اليوم في المرتبة الرابعة!
ليس الأدب هو السبب وراء هذه الظاهرة العجيبة، أو ليس الأدب على نحو حصري في الواقع، بل هي تلك البرهة، الثمينة النادرة التي لا تتكرر إلا على نحو استثنائي، حين لا تتطابق المخيّلة الإبداعية مع الواقع الراهن، والصاعق، فحسب؛ بل يحدث أن تكون قدتفوّقت عليه، حين استبصرت الكثير من عناصره وعواقبه. وهكذا فإنّ القارىء المعاصر، إذْ داهمته فضيحة “وكالة الأمن القومي” الأمريكية في التنصّت الإلكتروني على الاتصالات الهاتفية وبيانات الإنترنت التابعة لشركات كونية عملاقة مثل “غوغل” و”فيسبوك”، ارتدّ ستة عقود ونيف إلى الماضي، فاستعان بمخيّلة أدبية تناولت الرقابة اللصيقة على خصوصيات البشر، أكثر من استعانته بأية مرجعية أخرى تنتمي إلى علوم السياسة أو الاجتماع أو النفس أو الأمن…
ولكي نبقى في ميدان الأدب، فنتلمس جانباً آخر مكمّلاً لظواهر انتهاك الحياة الشخصية للأفراد، للمرء أن يعود إلى رواية أخرى، هي “العاكس”، للأمريكي هنري جيمس، حيث يقول الصحافي جورج فلاك، مخاطباً مجتمعاً بيروقراطياً طهورياً آيلاً إلى اندثار: “لن يكون في وسعكم بعد الآن احتكار حقيقة ذات صلة بعامّة الناس، ولا ملجأ بعد اليوم من الصحافة. ما سأفعله الآن هو صناعة المصباح الأضخم حتى الساعة، وسأسلّط ضوءه على المكان بأسره. ولسوف نرى ما الذي سيتبقى من الحياة الخاصة، ومن الذي سيخيّب آمال الناس… الناس المتعطشين إلى المعرفة مثل الفرجة”.
كان ذلك سنة 1888، وأمّا في سبعينيات القرن السالف فإنّ الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو اعتبر أن مجتمعات الغرب لم تعد أسيرة إدمان يومي إسمه “الفرجة” Spectacle، كما كان قد بشّر فيلسوف فرنسي آخر هو غي دوبور؛ بل باتت ضحيّة جهاز معقد أعلى إسمه المراقبة اللصيقة Surveillance. وخلال الأحقاب المعاصرة، توفّر الكثير من المناسبات الكفيلة باالبرهنة على هذا الترابط العميق بين استراتيجيات المراقبة اللصيقة، ومبدأ الفرجة؛ كانت، في عدادها، وقائع متناقضة من حيث المحتوى: مراسم دفن الليدي ديانا أميرو ويلز، صيف 1997؛ بالمقارنة مع مراسم زواج ابنها الأمير وليام، بعد 14 سنة.
وبصدد الواقعة الأولى، التي بدأت مأساوية، ثمّ انقلبت سريعاً إلى فرجة شعبية وشعبوية وجَمْعية؛ تحضرني، هنا، قراءة تقدية متميّزة صدرت عن بلانتو، رسّام الكاريكاتير الفرنسي المعروف: لقد صوّر صحافياً يقتحم صالة التحرير في إحدى الصحف وهو يهتف بحماس: “في حوزتي الآن جميع صور مجزرة الجزائر الأخيرة”. زملاؤه، الغارقون حتى آذانهم في تغطية خبر وفاة الليدي ديانا كما يتضح من محتويات الصالة، يردّون عليه بما معناه: “من أيّ عصر حجري أتى صاحبنا هذا”!
وليس الأمر أنّ التكافؤ كان مطلوباً بين مصرع ديانا في حادث سير، ومصرع أكثر من 250 جزائرياً في ليلة ذبح رهيبة. غير أنّ الطغيان المعقد الذي مارسته، وتمارسه، اللعبة المتبادلة بين المراقبة اللصيقة والفرجة في مثال الحدث الأوّل، تجاوز حدود التغطية والعمل الإعلامي؛ ولعلّه تجاوز كامل النطاق العريض للفضول الإنساني الطبيعي، إزاء واقعة ساخنة، كانت تلوّح بتفاصيل متشعبة ساخنة بدورها.
غنيّ عن القول إنّ “الفضول”، الذي مارسته “وكالة الأمن القومي” الأمريكية بحقّ الملايين، كان من طراز خاصّ مركّب؛ حيث تنقلب أرشفة بيانات القرّاء الذين يستعيرون سيرة تشي غيفارا من مكتبة عامة، مثلاً، إلى مزيج من التلصص والفرجة والمراقبة. وليس غريباً، إذاً، أن يُصاب ملايين القرّاء بذلك الحنين إلى استعادة “الأخ الكبير” Big Brother، في رواية أورويل؛ إذْ لعلّه بدا أرحم من “المتصفح الكبير” Big Browser، في أشغال وكالات الأمن الفدرالية الأمريكية.
في غضون هذا، تواصل الديمقراطية عملها، فتكفل للصحافي، بطل هنري جيمس، الحقّ في تسليط ضوء مصباحه الضخم على النحو الذي يشاء. إنه عاكس أصداء، في نهاية المطاف، ولن يكترث به إلا مَن يعبأ بالصدى!
موقع 24