«من الانتداب إلى الانقلاب ـ سورية زمان نجيب الريس»
زمن الصحافة الحرّة والحياة السياسية قبل البعث
أحمد ياسين
الصحافية، والكاتبة السوريّة، سعاد جروس تروي في كتابها الجديد: «من الانتداب إلى الانقلاب ـ سورية زمان نجيب الريس»، سيرة «نضالية« لصحافي رمز، من خلال تفكيك سيرة وطن، فنجيب الريس الذي كان وطنياً متطرفاً إلى حدّ «الإعياء»، وحتى رمقه الأخير، ما أكسبه ألقاباً معنوية عدة، ذات وجه واحد، استحقها عن جدارة، كانت بمثابة هوية حياتية له منها: «مناضل الكلمة الحرة»، «صقر الصحافة»، «الثائر المتطرف»، «أسد الصحافة المخيف»، «كاتب أبلغ الافتتاحيات في الجرائد العربية»، كان صاحب صحافة رسولية، بلورها ـ وعلى وجه الخصوص ـ على الصفحة الأولى لجريدته «القبس»، التي وصفها عميد جريدة النهار اللبنانية، غسان تويني، في العام 1951، بأنها صاحبة «الرسالة الثورية التحررية». وهذا الكتاب، يغطي مضمونه المدعم بالوثائق والصور والشهادات الخاصة، حقبة زمنية تاريخية ممتدة من العام 1898 (أي العام الذي ولد فيه نجيب الريس)، إلى العام 1952 (أي العام الذي توفي فيه). ويستعرض هذا الكتاب التاريخ السياسي لسوريا، ودور الصحافة السورية التي كان نجيب الريس، رمزها الأكبر ورجلها الوطني الابرز، في هذا التاريخ، خلال الحقبة المذكورة، التي شملت زمن الانتداب الفرنسي، والزمن الذي شهد الانقلاب العسكري الأول في سوريا، بعد الاستقلال.
وهذا الكتاب قدم له، النجل الأكبر لصاحب السيرة، الناشر رياض نجيب الريس، بقوله: ليس لي من دور في هذا الكتاب، إلا ربما عنوانه. انه كتاب تمنيت ان أكون كاتبه، وقد أمضيت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتي في الكتابة والصحافة، وأنا افكر وأنوي واستعد لتأليف كتاب كهذا. لكن الإرادة خذلتني، والهموم جرفتني إلى الاهتمام بكتب أخرى، ليس بها صلة رحم كما لي بهذا الكتاب. حتى جاءت الصديقة والزميلة سعاد جروس، وهي الشاعرة والصحافية والكاتبة، لتقترح تأليف كتاب عن تاريخ سوريا المعاصرة، عبر ما قام به الصحافي نجيب الريس وجريدته «القبس»، ودوره في هذا التاريخ. ويشير الريس إلى ان سعاد جروس كتبت هذا الكتاب من دون أن يكون طرفاً أو مشاركاً في هذا الجهد. ويضيف إن سعاد جروس هذه الصحافية المحترفة، التي لا تنتمي إلى جيل السوريين الذين عاشوا في عصر نجيب الريس وعايش معه الانتداب والاستقلال والانقلاب، هذا الجيل الذي لم يعرف تأريخاً من بعده، إلا تاريخ سوريا الرسمي في ظل الخمسين سنة الأخيرة، وهي سوريا البعث وسوريا الاسد. ويتابع الريس قوله: أما صاحبة هذا الكتاب، المسكونة بهم تاريخ بلادها السورية، التي وثقت من خلال حياة صحافي وجريدته، وفي مختلف العهود خلال نصف قرن، نضال سوريا ودور صحافتها في الدفاع عن الاستقلال والحرية. ويقول الريس: إن سوريا التي تكتب عنها سعاد جروس هي غير سوريا اليوم. فقد مرت أحداث جسام، وسنوات عجاف على سوريا غيّرت الكثير من معالمها الحضارية والبشرية والإنسانية والسياسية والاقتصادية، وأمعنت في تشويه صورتها. ولكن لم تغير من نضالات شعبها وتمسكه بسوريته وعروبته، وفي مواقفه النضالية. ضد كل أنواع الاستعمار، والارتهان للاستبداد في سعيه الى الحرية والاستقلال. ويضيف الريس قوله: إنه كان من أهم عناوين هذا الكفاح، دور الصحافة السورية التي غبن حقها، وحجب دورها، وكانت صحافة غنية في تعددها وتنوعها السياسي والفكري. وعن زمان نجيب الريس تروي سعاد جروس حكايات سورية، منذ العهد الفيصلي وإقامة أول حكومة عربية مدنية، مروراً بحكايات الانتداب وشخصياته، والحياة الحزبية العشائرية ورجالاتها. وزعماء حركات الاستقلال والانفصال، وضباط الانقلابات، وعساكرهم وولاءاتهم الإقليمية المختلفة. أما العلاقات بين سوريا ولبنان، فهي منجم من المعلومات والحكايات. الأهم من ذلك، تقوم المؤلفة بشرح مهني، حول ما حوت «القبس» من مواضيع عصرية، وتغطيات صحافية وافلام تقدمية ونقاد وشعراء جدد.
كما ويشير الريس، إلى أن سعاد جروس، ليست مؤرخة تغوص في أكاديمية المصطلحات، وتنقب في الأوراق الصفراء. إنها لا تكتب أطروحة جامعية لنيل شهادة ما. بل هي صحافية تبحث في صحافة بلادها ومذكرات سياسييها وأوراق حكامها. صحافية تكتب عن تاريخ الأمس، كما تكتب تقاريرها ومقالاتها وتحقيقاتها الصحافية عن تاريخ اليوم. هي تروي تاريخ سوريا المعاصر وكيف تشكل عن طريق سيرة فتى جاء من حماه، وهو في الثامنة عشرة من عمره، بالقنباز الحموي، ليصبح أشهر صحافيي بلاده، ويصير نائباً عن دمشق التي تنتخب لأول مرة رجلاً من غير ابنائها ليمثلها في البرلمان. فالخمسون سنة هذه هي تاريخ نصف قرن سوري، من الانتداب الى الانقلاب، كما عاشها نجيب الريس وعاصرها وكتب عنها. ولأول مرة تروي سيرة وطن عن طريق سيرة شخص، وهي سيرة فيها الكثير من المغامرة والمثابرة والعناد، كما فيها من صداقات مثالية ووفاء نادر من عداوات لا ترحم. وينهي الريس نص تقديمه قائلاً: إن هذا كتاب يتحدث عن نفسه، ولا يحتاج إلى تقديم مني ليصبح مرجعاً مثيراً يعتمد للحركة الوطنية السورية، من العهد الفيصلي إلى الانتداب إلى الانقلاب. وهو كتاب تمسك سعاد جروس فيه يد القارئ، لتصل به الى استيعاب تلك الحقبة السورية المجهولة فيعيش فيها وتعيش فيه بمتعة كبيرة دون عناء.
وسعاد جروس تهدي هذا الكتاب «إلى الصحافة السورية المغدورة التي لم يعترف التاريخ بدورها في سبيل الاستقلال ونضالها من أجل الحريات«. فعلى هذه الخلفية كانت ولادة هذا الكتاب التي نشأت فكرته لديها في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وتقول في هذا الشأن انني تعرفت الى الصحافي السوري نجيب الريس الذي عاش وتوفي قبل ولادتي بعدة عقود، كنت مع زملائي من متخرّجي كلية الاعلام جامعة دمشق، نجترح الأحلام بصحافة حرة تتفتح على صفحاتها اقلامنا، ولم نكن نعمل سوى أننا نزرع الارض اليباب بالآمال. حينها قرأت عن صحافي ثائر، ومناضل عتيد، وقلم لاذع، كان له دور كبير في تاريخ سوريا، يوم كان هناك صحافة وحياة سياسية، ما أنعش التمنيات بعودة الروح للصحافة السورية المغدورة. وسرى تفاؤل لم يطل، إذ كان عمر التفاؤل قصيراً. فخلافاً للتمنيات اليائسة، تفتحت أزاهير ربيع دمشق مع بداية الالفية الثالثة، عقب هطول الوعود الكبيرة، تجلت بإعادة العمل بقانون المطبوعات، وصدور اول جريدة مستقلة بعد سبات اربعة عقود، بدأت على اثرها عمليات وصل ما انقطع. وأعاد الكثيرون قراءة تاريخ الصحافة، وبدوري ساهمت في البحث عما يعيد الحياة اليها، فاستوقفني نجيب الريس من جديد؛ ابهرني أسلوبه وحرارة كلماته، وذكاء تهكمه في الهجوم على الخصوم. وتوضح جروس انها لدى قراءتها لمجموعة «نجيب الريس» (الأعمال المختارة) والمؤلفة من عشرة أجزاء لفتتها في هذه المجموعة، بلاغة التعبير، وإيجاز الجملة، وحيوية المعنى، فراحت تسأل نفسها، لماذا لم ندرس في الجامعة اساليب شيوخ صحافتنا عندما درسنا فنون الكتابة الصحافية؟ ولماذا لم نقرأ تاريخ تجربة صحافتنا، بينما أنهكنا بدراسة منسيات تاريخ الصحافة الدولية ولا سيما الروسية، وهدرنا الوقت في حفظ ما أنتجته من أنواع صحافية انقرضت؟ وتجيب موضحة: لم أعثر على إجابة منطقية، غلى أن كشف العقد الأول من الالفية الثالثة ان كل ما هطل علينا من وعود كان أعراض حمل كاذب، وأن ما من صحافة حرة من دون حرية سياسية، وتاريخ صحافتنا السورية خلال النصف الأول من القرن الماضي، قد جب مع تاريخ تلك الفترة، وأغلب ما قرأناه حولها إما قاصر، وإما مشوّه عن سبق إصرار وتصميم، حتى الكتابات التي اتسمت بالحنين إليها، بالغت في الثناء والمديح وفق مبدأ أذكروا محاسن موتاكم. في تلك الأثناء ـ والإشارة للكاتبة ـ وجدت في مجموعة مقالات نجيب الريس سجلاً حافلاً ليوميات اكثر من ثلاثة عقود، أخذتني بداية نحو مهارات صنعة الكتابة الصحافية وفنونها، كما أغرقتني، لاحقاً، في أحداث نصف قرن، شهد الولادات المتعثرة للدولة السورية، وانقلاب العسكر الذي اسس لوأد متواصل للأحلام الوطنية.
وإلى ذلك تلفت جروس موضحة: أخذني نجيب الريس في رحلت استكشافية، في ردهات الصحافة السورية بأوج عطائها.. فازددت اقتناعاً بأن ما تعلمناه في المدرسة والجامعة عن الوطن والوطنية، وما يتصل بالسياسة، لم يكن فقط قراءة من وجهة نظر واحدة ضيقة، وإنما كان تدجيناً للعقول وتكريساً للأمية، في ما دعي دجلاً بـ»الثقافة القومية» أو «التربية الوطنية».
وتضيف جروس: ولقد ظننت أني لست وحدي، بل ثمة كثر مثلي، سواء من ابناء جيلي أو من الأجيال اللاحقة، لا بد سيصدمون بحجم التضليل الذي أحاط نشأتنا. فاقتضى الواجب المهني، الإسهام بتجربتي المتواضعة هذه من خلال كتاب يعرّف بنجيب الريس، اخترته دون غيره لما لمسته من تجاهل متعمّد لدوره في أكثر من مرحلة شهدت أحداثاً جساماً في حياتنا الوطنية، ما زلنا نعاني من ذيولها الى الآن، وكانت الفكرة ان يكون الكتاب أقرب الى كتب التراجم (حياته، أعماله، أسلوبه، نماذج من كتاباته). لكن الأمر الذي بدا سهلاً، كان مستعصياً، إذ اختلطت حياة الصحافي المناضل مع حياة سوريا، وكلما بحثت في سيرته وجدتني متورطة في تفكيك سيرة وطن.
الكتاب: «من الانتداب إلى الانقلاب ـ سورية زمان نجيب الريّس مجلد قوامه 574 صفحة من القطع الكبير الكاتبة: سعاد جروس دار رياض الريّس، بيروت 2015.
المستقبل