من السلطة الشخصية الدائمة إلى الجمهوريات الجديدة
ياسين الحاج صالح
قد يكون من أبرز ما أظهرته الثورات والاحتجاجات المتفجرة في عدد من البلدان العربية الطابع الشخصي لممارسة السلطة في بلداننا. أي الحضور الكبير لشخص الحاكم وروابطه العائلية وقرابته في ممارسته الحكم. ليس هناك مسافة بين الرئيس بدلالة منصبه ووظيفته العمومية وبينه مندرجاً في روابطه العينية كزوج وأب وأخ، وكشخص محسوس جداً منسوب إلى محلة وعشيرة وأصحاب وشركاء. يُعتقد أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي كان يعدّ زوج ابنته صخر الماطري لخلافته، وقيل الكثير في الأسابيع الماضية عن دور سياسي لزوجته، ليلى الطرابلسي، لا يقتصر على استغلال الدولة لجني المال والنفوذ، بل يتعداه إلى تدخلات سياسية تصل إلى تعيين وزراء. ومثل ذلك يقال عن سوزان مبارك التي كانت تأمر وتنهي، وتتسبب في متاعب لمن يفقد حظوته عندها. ومعلوم أن نجل مبارك، جمال، كان يُعَدّ لوراثة أبيه. وتقال أشياء عن دور للسيدة سوزان في دفع مبارك الأب في هذا الاتجاه. أما الابن الثاني علاء فيُفضِّل مجال «الأعمال»، وهو من كبار أصحاب الوكالات والأموال. وقد كان «الدكتور في الفلسفة» سيف الإسلام القذافي، أول من ظهر على التلفزيون الليبي بعد تفجر ثورة 17 شباط (فبراير)، مهدداً متوعداً باسم نظام أبيه. بعده ظهر الأب مثنياً على ما قاله الابن. أما الأبناء الآخرون فيقودون كتائب أمنية خاصة لحماية نظام الوالد، فيما تمارس الزوجة التجارة، وتستخدم نفوذ زوجها لنيل احتكارات وامتيازات خاصة. وكان من أول ما تعهد به الرئيس اليمني علي عبدالله صالح أنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة عام 2013 ولن يورث الحكم لابنه، قائد الحرس الجمهوري اليوم. ومثل هذا كثير هنا وهناك.
في الحالات هذه كلها، الحاكم يحكم بكل شخصيته وروابطه وتعييناته. وهو يحكم لأنه ممتاز واستثنائي، وامتيازه كلي وشامل، وليس مهارة سياسية متفوقة، أو شجاعة سياسية أو حربية مجربة، أو نزاهة وحساً بالعدالة مشهورين. إنه استثنائي كياناً وليس أداء، ولا يقاس به أي من محكوميه. والامتياز الكياني اللصيق بشخص الحاكم جوهري وأساسي ولا يُكتسب. وهو صفة طبيعية له، مثلما النطق صفة طبيعية للإنسان، والطيران للطيور والسباحة للأسماك. وهو تالياً صفة وراثية. توريث الحكم مكتوب في الحكم الشخصي، القائم على الامتياز.
وهذا في غير الجمهوريات أشد رسوخاً مما في الجمهوريــات، من دون أن يكـــون أكثر شرعية. يجب الفصل بين الحكم والملك علــــى نحو ما يجري الفصل بين السلطات الثلاث، أو بين الديــــن والدولة. ما يقضـــي أيضـــاً بأن يتجرد ممارسو الحكــم من روابط الأســرة والنسب والعشيرة، أو يحيلوا هذه الروابط إلى المجــال الخــاص، بــحيث تكون معدومـة التأثـير في ممـارسة السلــطة العـامة.
الواقع أن التمييز بين المجالين الخاص والعام، والفصل الدقيق بينهما، من مكاسب الحداثة السياسية التي جرى التفريط بها في بلداننا في العقود الأخيرة بعد أن لم يكن متأصلاً، ولعل من شأن الثورات الجارية أن تعيد التشديد عليها. الرئيس شخص مجرد، إن جاز هذا التعبير المتناقض، لا يمارس السلطة إلا بالتجرد عن روابطه الخاصة. له بالطبع حياته الخاصة من أسرة وزوجة وأبناء وأصحاب وأقارب، لكنْ خارج المنصب الحكومي. في منصبه، للرئيس «قيمة تداولية» فقط، تتحدد بقواعد ممارسة الحكم وبالمصلحة الوطنية، وهي قواعد عامة مطردة يتعين أن ينضبط بها متولو المناصب العليا، ولا تنضبط هي بهم أو بأذواقهم وأهوائهم. ولا تكون للرئيس «قيمة استعمالية»، تتصل بوضعه المحسوس وروابطه المتنوعة، إلا في المجال الخاص. يقوم هذا التمييز على مبدأ أن الناس متساوون مبدئياً، وأن أكثر تفاوتهم مكتسب وليس أصلياً. فلا دماء زرقاء متفوقة، ولا نظريات حمراء كلية القدرة، ولا طبقة نبيلة وراثية أو طبقة عاملة رسولية، ولا أصناف اجتماعية ثابتة، ولا عبقرية وراثية، أو سلالات شريفة. لذلك ليس ثمة ما يحتم أن يكون ابن العالم عالماً، أو يضمن أن يبقى ابن العامل عاملاً، أو يسوّغ أن يكون ابن الحاكم حاكماً. وقد يتفوق ابن العامل على ابن الحاكم، والولد الفقير على سليل الأسرة الميسورة. وهو ما يقوض شرعية التوريث التي تستند، في المقابل، على ثبات المراتب الاجتماعية أو تثبيتها.
وقد نضــيف إلى مبــدأ المساواة مبدأ مكملاً يفيد بأن الحكم شأن عام، وليس شأناً تخصصياً مثل الطب والمحاماة والعلوم الدقيقة المتنوعة. ليس هناك مجال علمي يتخرج المرء منه حائزاً شهادة حاكم أو رئيس. والحــكم شأن عام بعدُ بمعنى أنه يتأثر بأفعال ممارسيه وقراراتهم كل الناس الواقعين في مجال ولايتهم، وأن أفعال الحاكمين وقراراتهم تطاول الناس في كل جوانب حياتهم.
ولأن الناس متساوون ولا شرعية لأن ينفرد بعضهم بحكم الجميع من دون رضاهم، ولأن الحكم ليس اختصاصاً مهنياً، تعين أن يكون شأناً تنافسياً، منضبطاً بمبدأ الانتخاب الحر. هذا المبدأ لم تعرفه الحياة السياسية العربية إلا لماماً.
بل لقد كنا نسير بعيداً عنه. كانت سمة التطور السياسي في البلدان العربية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هي التحول الطبيعي للحكم الشخصي الأبدي إلى الحكم السلالي. هذا تحقق في «جمــهورية» واحــدة، وكانت غير جمهورية تعتزم السير على الدرب نفسه. ويمكن سوق الكثير من القرائن على ارتباط هذا التطور بتفاقم الرجعية الاجتماعية والسياسية والفكرية في بلداننا، وانسداد آفاقها، وتفشي النزعات والإيديولوجيات العنصرية والطائفية في أوساط نخبها وطبقاتها. فضلاً عن حكم الهوى والنزوة والاعتباط. هذا المسار الانحداري هو ما يؤمل أن الأزمنــة الثورية الراهـنة تسير في اتجاه القطع معه.
لكن هذا ما يرتب على الثقافة والمثقفين الكثير من الأعباء. لقد وجدت لدينا جمهوريات من دون أن تكون لنا قيم جمهورية، أو سجل من الكفاح من أجل الجمهورية (تراثاً جمهورياً). أي المواطنة والمساواة بين السكان بصرف النظر عن الأصل والدين والجنس والعرق، وكذلك تجريم الاستبداد والحكم الأبدي والتمييز بين السكان. لم يكن المثقفون في مواقع قيادية في ثورات اليوم، لكن المثقفين هم المؤهلون لترجمة هذه الخبرات الكفاحية المهمة إلى ثقافة، فكراً وفناً وأخلاقيات وسلوكاً ورموزاً. على هذا النحو يمكن أن يتكون تراث جمهوري عربي.