من «اليهوديّ الأزليّ» إلى الإسلاموفوبيّ الشرقيّ/ وسام سعادة
ثمّة فارق جوهريّ بين عمل روائيّ كـ»آيات شيطانية» لسلمان رشدي وبين رسوم الكاريكاتير المسيئة لنبيّ الإسلام في «شارلي ايبدو»، هذا بصرف النظر عن رأي رشدي نفسه.
في الرواية، الناجيان من التفجير الإرهابي للطائرة، صلاح الدين شامشا وجبريل فاريستا، يشكلان بالفعل منجماً سردياً وأونيريّاً (أي نسبة لعالم الأحلام) لسبْر تمزّقات المهاجرين واحتقاناتهم ورغباتهم وكوابيسهم، ما بين شبه القارة الهندية المشطّرة على أساس ديني، وما بين الحاضرة البريطانية التي تميّز حملة الجواز نفسه على أسس عرقية. لا يعني ذلك أن رشدي لم يوظّف التنميطات السلبية لنبي الإسلام في أحلام شخصية جبريل فاريشتا. بالعكس، قام بذلك بالفعل، وباستهداف سياسيّ واضح للإمام الخمينيّ، الأمر الذي ردّ عليه الأخير بفتوى هدر دم الكاتب، وهي فتوى لم تلغها ايران بعد، رغم موقفها الشاجب للهجوم الدمويّ ضد «شارلي ايبدو».
هذا، مع أنّ توليفة رشديّ اللغوية والأسلوبيّة أقلّ ما يُقالُ فيها أنّها مراوغة، ومتعدّدة الأبعاد، أو قُل حمّالة أوجه. ولا شيء من هذا القبيل في كاريكاتيرات «شارلي ايبدو». لا شيء سوى اقحام رجل رحل عن دنيانا قبل أربعة عشر قرناً، محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب الهاشمي القرشي، في خطاب استفزازي يستهدف مجتمع المهاجرين المسلمين من أصول مغاربية.
والحال أنّ هناك من يريد أن يفرض عليك الآن الاحجام عن قول هذا، الا بالاستدراك رأساً، «بأنّ هذا لا يبرّر كيت وكيت»، في ضابطة لسانيّة تفضح نفسها بنفسها. فمن قال أساساً أنّ وضع النقاط على الحروف، وتصوير مجلة «شارلي ايبدو» على ما صارت عليه، من متهجّمة ليس فقط على قيم ورموز دينية وثقافية بل على جزء من المجتمع الفرنسي نفسه، يفترض أن يُبرّرا هجوماً ارهابياً؟
في حالتي رشدي ورسامي «شارلي ايبدو» هناك، على اختلافهما، تشابه: العودة الى مخيال العصر الوسيط (الميد فالي) الأوروبي، والغرف من الصورة السلبية والرُهابية، لنبيّ الإسلام في ذلك العصر، والقفز على ما ميّز التناول الأوروبيّ للاسلام في الحقبة الاستشراقية، من «ازدواجية عواطف سلبية وايجابية في آن».
. رشدي استعاد في روايته تحويراً ميديفالياً هجائياً لاسم نبي الإسلام، أمّا رسامو «شارلي ايبدو» فجمعوا بين الصورة الميديفالية المُشيطِنة له وبين صورة أسامة بن لادن، وراحوا بذلك يرّوجون لنفحة منقحة من العلمانية، تفترض من مسلمي فرنسا البراء ليس من «بن لادن»، بل من «البن لادن العابر لكل العصور»، والمستمدّ كاريكاتوره من المخيلة الميديفالية عن نبي الاسلام. ولأنّ الذاكرة باتت قصيرة، غفل الغربيون عن تراث كاريكاتوري ازدهر منذ أواخر القرن التاسع عشر الى المحرقة النازية، عن «اليهوديّ الأزليّ»، العابر لكل العصور، مسمّم الآبار، قاتل الأطفال، آكل أموال الناس، مدبّر المؤامرات، طاعن الشعوب في ظهرها. قصارى القول هنا، ان «رُهاب الإسلام» (أو «الاسلاموفوبيا») يستعيد في جزء أساسيّ منه تركيبة «معاداة السامية». الكاريكاتور التحريضيّ ضدّ «اليهوديّ الأزليّ» صار ضدّ محمّد. لا يقلّل من هذا الأمر، بل يعقّده طبعاً، أن يعتبر مسلمون كثر أنّ «اليهودي الأزليّ»، لا أحد سواه، هو وراء رسوم الكاريكاتير. لم تضمحل اللاسامية في عالم اليوم، لكنّها انزوت، وصارت ثانوية نسبة الى الاسلاموفوبيا. أن يكون بعض المهتمين بمكافحة اللاسامية ينزلقون لمواقع اسلاموفوبية، أو أن تكون المناهضة الاسلاموية خصوصاً، للاسلاموفوبيا، تستعيد ركام اللاسامية، فهذا لا يلغي المعادلة الأساسية: الاسلاموفوبيا هي أخطر نزعات الكراهية في عصرنا اليوم، وبالذات لأنها تجمع بين ما هو نافر، وبين ما هو شديد الرياء. الرياء تجده في كل اسلاموفوبيا تستر نفسها بستار علمانيّ أو الحاديّ، لتميّز من ثم بين ديانات أليفة من وجهة النظر العلمانية وبين ديانات خطيرة. وتجده في كل دعوة للمهاجر المسلم في أوروبا الى ممارسة الشيء ونقيضه، أي محاولة الاندماج، والتسليم بأنّه مهما فعل، فإنّ سماته الفيزيولوجية والثقافية ستحولان دون ذلك. «كُنْ سيزيفياً أيّها المهاجر، حاول أن تندمج، وستفشل حتماً، لكن حاول، وثابر، ولو فشلت، لك أجر، عليك أن تتطهّر على الدوام، ولن تنجح». هذا بعض من مكبوت الاسلاموفوبيا المعاصرة، في ريائها. أمّا من حيث طابعها النافر، فالاسلاموفوبيا الغربية لا تكذّب خبراً: الاسلام ليس «ديناً»، بل هو «عِرْق»، عِرق بيولوجيّ – دينيّ لا يتطبّع.
هذه الاسلاموفوبيا الغربية ليست وحدها في عالم اليوم. اذ ثمة اسلاموفوبيات عديدة بعدد البلدان المحيطة او المتداخلة مع العالم الاسلامي. القاسم المشترك بينها هو تحويل كل نقاش سياسي أو ثقافي الى تابع ذليل لـ»مكافحة الارهاب» والمنظومات الأمنية المختلفة التي تتلبّس هذه اليافطة. وثمّة أيضاً «اسلاموفوبيا المغفّلين»، يقبل عليها أبناء الجلدة. عند بعض هؤلاء أنّ الخيار هو إما بين تبسيط من نوع «الاسلاموفوبيا تولّد الانفجار»، وإما أنّ «الانفجار يولّد الاسلاموفوبيا». وهم طبعاً، يستلذون تبرير الاسلاموفوبيا بداعي عدم تبرير الارهاب، وبذريعة ان الغرب يسطّر دائماً صفحات مجيدة في معالجة اللاسامية أولاً، ثم في معالجة الاسلاموفوبيا. طبعاً، ان يكون هذا الغرب «قد عالج» اللاسامية بتدمير يهود اوروبا وباقامة دولة لليهود في فلسطين، وان يكون مجتمع المهاجرين في فرنسا هم ابناء مجتمعات استعمرتها فرنسا، بل انكرت انها تستعمرها في حال الجزائر التي اعتبرتها «أرضاً فرنسياً»، فهذه من النوافل والمسائل التي لا سبيل لاستحضارها عند المقاربة بالنسبة الى مدمني خطاب «نحن سيئون». والحق ان أتباع هذا الخطاب هم فعلاً سيئون وليس كامل الدائرة القومية او الدينية الحضارية التي يريدون توريطها بسوئهم المتفجّع على نفسه. فالترسيمة التي يريدها الاسلاموفوب الشرقيون، وهم يوجهون تحية التبعية للاسلاموفوب الغربيين، هي «اننا شعوب سيئة، وناكرة الجميل، وعديمة الوفاء». بعد ذلك، يصرخ الاسلاموفوب الشرقيون مستنكرين لماذا ينقطع اي اتصال بينهما وبين مجتمعاتهم، ولماذا لا يكترث الغرب جدّياًً بهم الا كنماذج «نامية فكرياً»، وهم على ما يزيّنون لأنفسهم حماة هذا الغرب، بتواضع وتصميم، وبشعارات مدوّدة من مثل «اهطلي يا ديموقراطية» و»عُد يا استعمار»!
لأجل كل هذا، قد يكون ممكناً لروائي كرشدي أن ينضم الى الاجماع الميديائي العالمي اليوم «حسبي شارلي ايبدو»، أما الشخصيتان الروائيتان صلاح الدين شامشا وجبريل فاريستا، فمن الصعب كثيراً تصوّرهما تحت هذه اليافطة. هما، ناجيان من هجوم ارهابي. هما، غير ناجيين، من الفوقية الكولونيالية تجاه المهاجرين. هما، ولو نطق أحدهما، في حلمه، بتنميطات ساذجة، الا انهما أيضاً، من ضحايا «رُهاب الإسلام».
٭ كاتب لبناني
القدس العربي