من تأصيل الفكر إلى تأصيل القتل/ سمير الزبن
لزمن طويل، كانت هناك مطالبة فكرية في تأصيل الحديث والجديد في تراث المنطقة، باعتبار أن هذا الحديث والجديد يجب أن يبرر نفسه بأصول في التراث العربي أو الإسلامي. وبالتالي يعتقد أصحاب هذه المطالبات أن هذا التأصيل، يجعل المجتمعات العربية أكثر قابلية لاستقبال الجديد، مفترضين أن هذه المجتمعات ترفض الجديد من حيث المبدأ، وترغب دائما في الإبقاء على تخلفها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ليس أولها تأصيل الديمقراطية بالشورى، بوصف الأخيرة أصلا من أصول الديمقراطية، مرورا بأسلمة العلوم، وصولا إلى البنوك الإسلامية، التي تقوم بكل ما تقوم به البنوك العادية من عمليات مالية، ولا تفعل شيئا سوى تغيير أسماء العمليات المالية، لتعطي للفائدة المالية شرعية إسلامية شكلية.
هذه المطالبات تأخذ اليوم، أبعادها إلى أقصى حالات التطرف مع القوى الإرهابية السلفية الجهادية، والتي لا تقبل بتأصيل الأفكار، فهذه بدعة لا يمكن احتمالها في الفكر التكفيري المغلق، الذي يطالب بإعادتنا للعيش في الزمن الأول، بأدوات الزمن الأول، زمن الرسالة الأول، لكن ليس بالاعتماد على النموذج التسامحي الأول الذي ولد في سياقه الإسلام، حسب الروايات الإسلامية السائدة، بل عبر «إدارة التوحش» وعبر «فقه الارعاب»، أي استخدام الوسائل الفكرية الترهيبية لأردأ عصور تاريخ المنطقة، للوصول إلى ما تعتبره الرواية التاريخية الدينية «الزمن الراشدي»، بوصفه الزمن الأفضل والأكثر إشراقا في تاريخ الإسلام؛ رغم أنه زمن شهد صراعات دموية على السلطة.
إن التأصيل المطلوب لدمج الجديد في تراث المنطقة، تحول مع تردي النقاش الثقافي من سيئ إلى أسوأ، من تأصيل الجديد في التراث إلى العيش وفق وصفة السلف الصالح في أردأ صورها. وإذا كان التأصيل يهدف في سياقه السابق إلى رفض حالة الضعف والتبعية بوصف الأفضل ممكناً تاريخياً، كما تقول التجربة التاريخية للمنطقة؛ فإنها أسست اعتماد الماضي بوصفه المرجعية المعيارية لما يمكن أن تذهب باتجاهه المجتمعات العربية من حداثة. وبهذا، بات الماضي يرقد بكل ثقله على الحاضر العربي ويهدد مستقبله، وهو ما عمل على جر المنطقة إلى الوراء، بدل أن تسير إلى الأمام بدلالة الماضي، لأن الماضي ببساطة، ليس الوسيلة المناسبة لولوج المستقبل. فعندما تكون الذروة التاريخية موجودة في الماضي، فإن المستقبل لا معنى له؛ أنه صورة ممسوخة عن الماضي في أحسن حالاته. فالماضي حسب هذه الطريقة في التفكير، هو ذروة التجربة الأكثر إشراقاً في التاريخ العربي، والتمسك بهذه التجربة بوصفها مرجعية مطلقة، يعكس إمكانية تجاوزه في المستقبل؛ هي اللحظة التي يجب التمسك بها، والتدليل من خلالها على قدرة المسلمين على إنجاز تاريخ مجيد. فما جعلهم في الماضي يصنعون هذا المجد، هو ذاته يجعلهم قادرين على صناعته مجدداً؛ بذلك يتم الوقوع في أسر مرجعية الماضي، ويصبح المطلوب ليس الإجابة عن أسئلة الحاضر والمستقبل، بقدر الإجابة عن أسئلة الماضي. وسؤال شكيب ارسلان بـ»لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟»، يحمل الافتراض الذي يجعل للتاريخ العربي ثقلاً لا يمكن تجاوزه. فالمسلمون كانوا قد تقدموا على غيرهم، وكان غيرهم متأخراً عنهم. ولدى طرح السؤال بهذه الطريقة، يصبح المطلوب البحث في الماضي عن سر التقدم الذي افتقده المسلمون. إن الوضع المقلوب الذي افرزه تاريخ العالم هو وضع شاذ، وغير طبيعي؛ والطبيعي أن تعود الصورة إلى ما كانت عليه قبل أربعة عشر قرناً. وكيف يكون ذلك؟ يكون بالبحث عن الأسباب التي تقدم بها العرب في ذلك الوقت، وتصبح الإجابات موجودة في الماضي لا في المستقبل.
عدم تفكيك التاريخ
عدم تفكيك التاريخ الثقيل الذي نرزح تحته، ووضعه في إطاره التاريخي، شكل أحد الأسباب الرئيسية للإخفاق في المنطقة؛ على قاعدة أن حلول الماضي لا تحل إشكاليات الحاضر، وأن استيرادها إلى الحاضر، هو استيراد لا يختلف كثيراً عن الاستيراد من الغرب. فالاستيراد يكون على نوعين، استيراد عبر الجغرافيا بنقل أفكار وسلع من بلد إلى بلد لا يتماثلان في القيم والتطور والمشكلات. وعبر الزمن باستيراد أفكار وقيم وحلول لا تنتمي إلى الزمن الراهن ولا تجيب عن مشكلاته، إنما على العكس، تعمق جراحه وتجعله يدور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها. وهذا ما نجده في العلاقة المتأزمة مع الغرب. فالعربي لا يستطيع أن يرى صورته الحقيقية، من خلال الواقع القائم، وهي صورة غير مشرفة على الإطلاق، لواقع الضعف الذي تعانيه الدول العربية وفقدان الوزن، واختلال المجتمعات… الخ. إنما يريد أن يرى صورته الأكثر إشراقاً التي أفرزها يوماً التاريخ العربي في لحظة من لحظاته. هذه الصورة تعويض معنوي عما يعاني منه العربي في واقع الحال، وتساهم في تكريس حالة الضعف والتبعية التي يعاني منهما، فيجد العربي نفسه بين ذروتين، ولكنه يقبع بين هاتين الذروتين في قعر الوادي. ذروة الحداثة والتقدم الغربي، التي لا يستطيع الوصول إليها، وذروة التاريخ الإسلامي التي لا يمكن استعادتها بصفتها صورة معنوية له. ولبعد هاتين الذروتين، ولاستمرار ابتعادهما، يجد العربي نفسه أنه يعيد إنتاج إخفاقاته في كل مرة بصورة أعمق من السابق.
اليوم، تجيب الاتجاهات الأكثر تطرفا عن سؤال التقدم، بأن المسلمين يعانون من حالة الضعف والهوان لأنهم تخلوا عن دينهم، ولا يمكن إعادة الاعتبار لهم، إلا بعودتهم للعيش وفق تعاليم دينهم. فلا «لا حاكمية إلا لله» ولأن التنزيل توقف منذ وفاة النبي محمد، فهم من يقومون بتنفيذ هذه «الحاكمية»، وذلك بفرض حصار كامل على المجتمع بالقوة، نموذجه الحكم الطالباني في أفغانستان، وحكم «الدولة الإسلامية» في ظل الخليفة أبي بكر البغدادي. وإدخال المجتمع في حاله طقسية في غاية التخلف. والمفارقة أن هذه الحالة الطقسية المتخلفة، تتم حمايتها بأكثر وسائل القتل حداثة، ويتم توظيف أحدث التقنيات من أجل الترويج لأسوأ أنواع الفكر التكفيري، وهو ذروة الانفصام، بين حقيقة ما نعيش وحقيقة ما ندعي إننا نعيشه.
إن نموذج «الدولة الإسلامية» كما نراه اليوم، ليس إجابة تاريخية ماضية عن واقع حديث؛ على العكس، إنه حالة حداثية جدا، تستخدم وسائل الحداثة ذاتها لتكريس سلطه متخلفة ذات طابع أخطبوطي، مغلفة سلطتها الدموية بنصوص تاريخية، تبدو وكأنها تكرر نموذج الدين الأمثل، في الوقت التي تمثل أسوأ أنواع السلطات، متوسلة النص الديني ونماذجه الفقهية البائسة. فهي تريد أن نطيل لحانا ونحف شواربنا ونمتنع عن لباس البنطال بوصفه مخالفاً للباس الشرعي، في الوقت الذي تقتلنا برشاش حديث من صناعة الكفار، بفتوى حمقاء، لفقيه أحمق، عاش في زمن المغول.
المستقبل