من «حكم الأسد» إلى «حكم الأسود»/ عبد الحليم قنديل
ربما لا جدال في طبيعة المآلات العسكرية للحرب في سوريا، فقد صار لجماعة بشار الأسد أغلب الأرض والمدن الكبرى، ومن دون أن يضيف التطور في حرب السلاح قوة للنظام، فقد تحقق له ما تحقق، ليس بيده، ولا بقواته وحدها، بل بسبب تدخل روسيا العسكري الكثيف الذي قلب الموازين، وببركة جهد القتال البري الشرس لميليشيات إيران وحزب الله بالذات.
اختفت ممالك «داعش» أو كادت، وصارت الغلبة الحاسمة للحلف الداعم لبشار، وبيده ما قد يصل إلى سبعين في المئة من إجمالي مساحة سوريا، وحلت ما تسمى «قوات سوريا الديمقراطية ـ الكردية أساسا ـ في المرتبة الثانية، واقتنصت خمس سوريا في الشرق والشمال، وبدعم جوي وتسليح أمريكي مطلق، وفي المرتبة الثالثة تجيء تركيا، التي تحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا على خط الحدود، ويتداخل نفوذها مع خرائط سيطرة هيئة تحرير الشام ـ النصرة سابقا ـ في إدلب بالذات، ومن دون أن يعنى ذلك رسما لخطوط فصل واضحة ونهائية، فلا تزال في الصورة قوى وجود هامشي، تخلى عنها ممولوها، وتركوها لمصائرها محاصرة، في غوطة دمشق، أو في الجنوب المتصل بالأردن، أو من حول قاعدة «التنف» الأمريكية، وكلها فصائل صغيرة، يدخل أغلبها في سيرة مناطق خفض التصعيد، وفي تفاصيل «الخريطة المبرقشة» التي انتهت إليها سوريا.
والمعنى ببساطة، أن الحرب في سوريا لم تضع أوزارها تماما بعد، وأن الذين انتصروا عسكريا بجلاء ووضوح، ليست لديهم القدرة المطلقة بعد على صياغة وصناعة مشهد ختام، فالأهم من سيرة الحروب، هو ما يحدث بعدها، أو على مشارف نهايتها، وكسب معركة السلاح لا يعني تلقائيا كسب حرب السياسة، خاصة أن كسب السلاح في سوريا ليس كاملا ونهائيا بعد، وكل ما جرى أنه تكون توازن قوى جديد على الأرض السورية، يعطى لروسيا إلى حين فضل الكلمة الأقوى، وهو ما شجع موسكو على حصار وتهميش مسار التفاوض الدولي في جنيف، وخلق مسارات أخرى موازية، وديناميكية أكثر، أهمها مفاوضات «أستانة» الكازاخية، التي ضمت إلى رعايتها شريكين أصغرين هما إيران وتركيا، وساعدت روسيا على نسج شبكه تواصل مع كافة الفصائل المسلحة المعارضة، إضافة للنظام طبعا، مع حرص موسكو على عزل جماعات «داعش» و»النصرة» القاعدية، أيا ما كان اسمها، واستخدام ثقلها لدفع طهران وأنقره إلى درجات من التوافق، والقيام بأدوار وساطة صارت مقبولة أكثر، خاصة مع انفتاح موسكو على علاقات قوية مع مصر، وتواصل سلس مع الأردن، ومد جسور اقتصادية وتسليحية مع السعودية، وبهدف تكوين إطار إقليمي حاضن لمشاريع حل سياسي، تضعها موسكو بمعرفتها، وعلى طريقة مؤتمر «سوتشي» الذي دعت إليه، وغيرت اسمه من «مؤتمر شعوب سوريا» إلى «مؤتمر الحوار الوطني»، وجعلت له مهام المصالحة الاجتماعية والسياسية، وإنجاز دستور لسوريا ما بعد الحرب، يفكك الطبيعة المركزية لحكم دمشق، ويعطى مزايا فيدرالية لأكراد سوريا بالذات.
ولا تبدو المهمة ميسورة، ولا الطريق سالكة تماما، فلم تكن الحرب صداما بالسلاح على جبهات متباعدة، بل تدميرا شاملا للبشر والحجر، ومقتلة وحشية، سقط فيها ما يزيد عن النصف مليون سوري، مع سحق لعظام وأجساد نصف مليون آخر في الاعتقال والأسر، وتشريد وتهجير في الداخل والخارج لنصف إجمالي سكان سوريا، وتطبيع الوضع، أو الاتجاه إلى تطبيعه، ولملمة جراحه، يحتاج إلى معجزة، وإلى مئات المليارات من الدولارات، لا يقوى على توفيرها الاقتصاد الروسي متوسط الحجم، رغم كون موسكو عملاقا عسكريا وتسليحيا، وقد لا تتحمس لها الصين العملاقة اقتصاديا، ولها مع موسكو شراكة دولية نامية، فللصين أولويات، ليس من بينها إعادة إعمار سوريا على نحو حاسم، والمعنى أن خراب سوريا قد يمتد لزمن، وأن ملايين اللاجئين السوريين قد لا يعودون سريعا، خاصة في ظل أحوال التداعي والحيرة التي تبدو عليها دول الغرب الكبرى اليوم، فلم تعد أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا ألمانيا تطالب بالرحيل الفوري لبشار الأسد، وإن كانت تمانع إلى الآن في بقائه على رأس صيغة الوضع النهائي، ويشترط الأوروبيون انتقالا سياسيا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، بينما تبدو واشنطن في حالة انتظار مرتبك، فالرئيس الأمريكي ترامب صار «بطة عرجاء»، واحتمالات عزله تتزايد، والكونغرس بمجلسيه يميل إلى إحكام قبضته، ودوائر البنتاغون والمخابرات تعادي روسيا غريزيا، ولكن من دون المقدرة على شن حرب ضد روسيا النووية بالطبع، ولا على صياغة خطة متكاملة في سوريا بالذات، وهو ما يفسح المجال أكثر أمام روسيا، خاصة بعد تفاهمات موسكو مع تل أبيب الحليف الأول لواشنطن، وهو ما يجعل أمريكا أقرب إلى وضع المراقب الصامت، المراقب في السياسة، بالابتعاد عن الانخراط في خطط حكم بديل لسوريا، والمراقب على الأرض، تكتفي إلى حين بقواعد أقرب إلى نقاط ارتكاز عسكري في شرق سوريا وجنوبها، ودعم مجموعات أهمها «وحدات الشعب الكردية»، فيما لا تثق الأخيرة تماما بدوام الدعم الأمريكي إلى النهاية، خصوصا بعد تخلي واشنطن، أو بالأحرى عجزها عن فعل شيء، لمساندة ومنع انهيار أكراد العراق، بعد استفتاء الانفصال، وهو ما قد يدفع أكراد سوريا إلى خط تفاهم مع روسيا، تتبعه بالضرورة علاقات أوثق مع ما تبقى من نظام بشار الأسد بمعية الحليف الإيراني، وهو ما بدا أن جماعة بشار الأسد على استعداد لدفع ضرائبه، والتسليم بنوع من الحكم أو الإدارة الذاتية للأكراد، مقابل ضم القرى والبلدات والمدن العربية الخالصة في شرق سوريا إلى مناطق سيطرة النظام والحلفاء، وتلك تسوية قد يقبلها أكراد سوريا، ربما تجنبا لمصير مأساوي مشابه لما حل بإقليم كردستان العراق، وإن كانت التسوية ستؤدي إلى غضب مزاد من تركيا الهائجة، الخائفة من مصائر التفكك النهائي، بسبب تصاعد الطموح الكردي داخلها، وليس واضحا إلى أي مدى ستعرقل واشنطن جهد التسوية مع الأكراد، وإن كانت حيلها على قدر ملموس من الضعف، خاصة مع تزايد الضغط الإيراني في العراق وسوريا، وحرص طهران على «لي ذراع» أمريكا، ربما لردعها عن التفكير في دخول حرب شاملة معها، أو انتقال واشنطن من سياسة الحصار إلى فعل الدمار، الذي تحرض تل أبيب واشنطن عليه، فيما لم تعط واشنطن الضوء الأخضر بعد لإسرائيل، ولا تطلق يدها في شن حرب على الجبهة السورية ـ اللبنانية، تأمل أن تردع بها حزب الله، أو أن تنزع أسنانه وسلاحه، وهو ما يبدو كأمل إبليس في الجنة، غير قابل للتحقق مع توازنات الأرض الجديدة، تماما كما لم يتحقق في مرات حروب سابقة، كانت فيها قوة حزب الله أقل بمراحل مما صارت عليه الآن.
والخلاصة، أن حرب سوريا خفت أوارها، لكنها لم تنته بعد، وقد تكون قابلة للتجدد مع تدخلات عسكرية واردة من إسرائيل، فسوريا لم تعد دولة مغلقة عند حدودها، بل صارت خرائطها الداخلية نفسها، مسرحا لتوازنات حرجة، يديرها الروس بالكاد الآن، استنادا لثقل قواعدهم العسكرية البحرية والجوية الحاكمة في سوريا، ولكن من دون ضمان ألا تفلت اللعبة، وتنفجر المعارك في الداخل من جديد، بالذات في الشمال عند منطقة نفوذ تركيا و»هيئة تحرير الشام»، ومع أجواء حرب لم تنته، تصبح القسمة السياسية عسيرة، فلن تعود سوريا أبدا إلى ما كانت عليه قبل الحرب الوحشية، وقد يبقى بشار الأسد لوقت على رأس سلطة رمزية، ما دامت لروسيا كلمة الفصل، لكن «حكم الأسد» بصورته التي كنا نعرفها، مضى وقته، وقد تتحول سوريا الجديدة المرهقة المنهكة المحطمة، من «حكم الأسد» إلى «حكم الأسود»، ومع فارق ظاهر، هو أن «أسود» سوريا الجدد، ليسوا من ذوى الجنسية السورية، بل قوى انتداب عالمي وإقليمي تحكم وتتحكم من وراء أقنعة سورية، وتلك مأساة أخرى برسم الانتظار .
كاتب مصري
القدس العربي