من سجن عدرا: الإعلام الرسمي يؤكد كذبه/ وليد بركسية
تجاوزت الحلقة الأخيرة من برنامج “سوريا تتحاور” التي بثت أمس على شاشة “الفضائية السورية” من داخل أسوار سجن دمشق المركزي المعروف بـ”سجن عدرا”، حدود التمثيليات الإعلامية التي عودنا عليها إعلام النظام الرسمي ضمن مسرحية “الإعلام التصالحي”، وأتت الحلقة مهينة للكرامة البشرية، وتزيف الوقائع.
فالسجن التعسفي الذي تنفي الدولة وجوده، ينقله الإعلام الرسمي وفق طريقته البشعة التي تبرر هذا النوع من الأعمال من منطق “حق الدولة في حماية مواطنيها”، ويأتي البرنامج بشخصيات رسمية رفيعة المستوى لعرض وجهة النظر هذه.
نقلت كاميرا البرنامج حياة المعتقلين السوريين هناك بتهم “قضايا الإرهاب”، ليس بالإنسانية والطوباوية التي يتخيلها المرء عند سماع هذه الكلمات من فم مقدمة البرنامج كنانة حويجة، بل بطريقة أقرب لاستغلال معاناة المعتقلين لعرض وجهة نظر النظام السوري في قضايا مختلفة وتحديداً قضايا الإرهاب وتمويله وفق منظور الدولة السورية. “ياما في الحبس مظاليم”، هي الفكرة التي أراد المعتقلون المختلفون إيصالها للمذيعة بلا جدوى. بمنطق القوة، تحاور حويجة السجناء المغلوب على أمرهم أمام جبروت الكاميرا والضغوط المختلفة لتحقيق غايات مسبقة.
لا يمكن للمعتقلين الحديث بحرية طبعاً.. وإن أرادوا ذلك، تسحب حويجة المايكروفون ومعه الحق في التعبير نحو سجين آخر، أو تتجاهل الحقائق بكل بساطة وتضع الكلمات في سياق مختلف أمام أعين أصحابها مباشرة.
تتكرر الحالات الإنسانية التي تبرز هشاشة النظام السوري وطغيانه في طريقة تعامله مع الحالات الفردية المختلفة. معظم الموقوفين بتهم تمويل الإرهاب، ينتظرون محاكمات لم تتم منذ فترات طويلة قد تصل إلى ثلاث سنوات ونصف عندما كان الإرهاب بالمنظور السوري الرسمي غير منتشر إلى ما هو عليه اليوم.
وصلت الحلقة إلى ذروتها عندما تحولت حويجة إلى سجن النساء. اصطفت السجينات في صف طويل كأنما يسقن إلى الإعدام. هو إعدام مجازي من نوع آخر أمام الكاميرات، تصرّ حويجة على أن المعتقلات يخفين عن عائلاتهن وجودهن في سجن عدرا بناء على حلقات سابقة من البرنامج في المناطق الساخنة (ببيلا، المعضمية، مضايا..)، حيث يطالب المواطنون الدولة بالإفراج عن النساء مقابل إلقاء السلاح والانخراط في عملية مصالحة.
ورغم أن جميع الحالات التي ظهرت على الشاشة تندرج في إطار تهمة “تمويل الإرهاب”، إلا أن حويجة تقلب الموازين بدهاء. فالسجينات لا يقبعن في الفروع الأمنية كما يدعي المواطنون، بل هم في سجن عدرا لأسباب أخرى قد تكون أخلاقية مثلاً. لتطرح من جديد فكرة سيادة الدولة وحقها في فرض شروطها الخاصة للمصالحة والحوار، بعدما ثبت بطلان طلبات المواطنين، وهو الأسلوب الذي يتكرر في كافة حلقات البرنامج دون استثناء.
أداء حويجة في الحلقة وبقية الحلقات في البرنامج، يعكس الأفكار السابقة، هي دائماً في أبهى حلة وبأفضل ماكياج حتى عندما تتوجه إلى المناطق الساخنة أو عندما تحاور المقاتلين من اي طرف، أو عندما تقابل المواطنين المحرومين من أبسط مقومات الحياة في الأماكن المحاصرة. تتصدر النظارات الشمسية السوداء وجهها، وتصرّ على ارتدائها حتى في الغرف المغلقة لتبدو بها أقرب للمحققين الأمنيين في الفكر الشعبي أو الفكر الهزلي الساخر. القوة التي يعكسها مظهر حويجة العام، يوازي القوة التي يفرضها الخطاب الرسمي بحق مواطنيه حتى عندما يريد التصالح معهم.!
تبكي إحدى المعتقلات وهي تتذكر أولادها. لا تريد سوى رؤيتهم بعد ثلاث سنوات ونصف من الاعتقال التعسفي على أحد حواجز النظام. لكن حويجة تصر على أنه لا وجود للتقارير الكيدية في البلاد ولا للاعتقال بناء على الهوية، قبل أن تطرح سؤالها الاستفزازي: “كيف هي حياتك في السجن؟” سؤال تجيب عليه دون كلمات، الكدمات الداكنة الواضحة على وجوه بعض السجينات. لكن السجينة ترد مباشرة بطريقة آلية تفضح أساليب التلقين القاسية “أنه أفضل من بيتها والجميع هنا أفضل من عائلتها”!
تنتهي الجولة المخيفة داخل السجن الكبير، وتتحول حويجة لـ “تفنيد أقوال المتهمين” مع ضيفي الحلقة: القاضي عمار بلال رئيس النيابة العامة الخاصة بقضايا محكمة الإرهاب والمستشار أحمد الناصر المفتش القضائي لدى محكمة قضايا الإرهاب. وبين الابتسامات المتبادلة والاستهزاء بالقصص التي رواها المعتقلون، تذوب القصص الإنسانية ويتحول الجميع إلى مذنبين “حتماً”.
لا تطرح حويجة القضايا الأهم أمام ضيفيها مثل مدى قانونية اعتقال المواطنين من دون تهم واضحة او من دون محاكمات، أو سبب بقاء المعتقلين في السجون رغم مراسيم “العفو الرئاسية” السابقة. بل يتحول الحديث القصير إلى المقارنة بين راحة المعتقلات في سجون النظام وبين الحالة المأساوية للمخطوفات لدى الجماعات التكفيرية، مع ضحكات غير لائقة نظراً لنوعية وحساسية الموضوع من الناحية الإنسانية. وينتهي الحديث كما بدأ بتمجيد “القضاء السوري” في “دولة المؤسسات السورية”!
المدن