من “طريق الباب” في حلب: أحاديث الثورة في ملجأ “عدنان”
ضحـى حسـن
حي “الربيع العربي”، أو “طريق الباب” قبل الثورة، طفلُ معركة حلب المُتعَب. تلك المعركة التي لم تضع أوزارها بعد، تُغرِق شوارع الحي بفقرٍ جاف، تغيب كل معالم الحياة فيه مع اختفاء الشمس، وتبقى آثار المعركة الجارية شاهداً وحيداً على حداد دائم.
يتعرّض الحي للقصف بشكل متقطع هذه الأيام. المنازل المدمّرة في كل مكان شاهدة على عنف القصف المتواصل في فترات سابقة. شوارع التهمتها صواريخ “سكود”، لكن أهالي الحي ما زالوا يتذكرون مراحل ثورتهم الأولى بشيء من الحنين: تظاهرات واحتجاجات سلمية للمطالبة بالحرية والكرامة. اليوم يبدو الحي بكل دماره هذا، كمن يقبع في غيبوبة مؤلمة.
أقمنا في بيت الناشط “عدنان الغجر” لأربعة أيام. هذا المنزل الصغير هو ملجأ شباب الحي، يقضون فيه معظم أوقاتهم بعد هبوط الليل. ومع انقطاع الكهرباء المستمر، تتوقف الحركة في أغلب المناطق، وتبقى داخل المنزل حيث الملاذ الآمن على ضوء الشموع. منزل “عدنان” يشبه المنازل العربية القديمة، مؤلّف من طبقتين و”أرض ديار” صغيرة، ينام الجميع في الطابق الأرضي لأنه أكثر أماناً في حال تعرضوا للقصف من قبل طيران النظام.
تدور معظم أحاديثهم عن الوضع الحالي للحيّ، عن الاعتصامات ضد “الكتائب” الإسلامية المتشدّدة واعتراضهم على وجودها، عن عدم تمثيل الهيئة الشرعية لهم ولما خرجوا من أجله، عن الحراك المدني وأسباب تراجعه في “طريق الباب” وما حوله بعد التحرير.
يحدثنا “الغجر” عن “الضغوطات التي نتجت عن جمود الجبهات في مراكزها التي وصلت إليها بعد تحرير عدد من المناطق، إلى جانب القصف وانقطاع الموارد، حيث شعر سكان المدينة المحررة باليأس والإحباط”. يعتقد الغجر أن “هذا الأمر مفهوم جداً، فالكثير من العائلات فقدت منازلها وأبناءها، إلى جانب خسارة أعمالهم”، ويضيف: “في الأشهر الأولى انقطعت الموارد الغذائية والأفران بشكل كامل، أذكر في تلك الفترة أنّي استيقظت الساعة 3 صباحاً من شدة الجوع، وتوجّهت إلى منزل صديقي لربما وجدت شيئا لآكله، كان عنده رغيفَا خبز والقليل من الزيتون، لا أعرف كيف أصف شعوري بالسعادة حينذاك”.
في 21-7-2011 تحوّل “طريق الباب” إلى بوابة تحرير المدينة، يقول الغجر، “قامت مجموعة “أبو معاوية” التي شكّلها شباب الحي، بضرب الحواجز المتمركزة فيه لتسهيل دخول الكتائب إليه”، مشيراً إلى أنه “لم يتم قتل العناصر التي كانت تقف عند الحواجز بل تم إعطاؤهم الخيار بين الانشقاق والمشاركة في معركة تحرير حلب، أو العودة إلى منازلهم”. ثم وصلت تعزيزات عسكرية من النظام لصدّ هجوم كتائب “الجيش الحر” ومنعِها من الدخول إلى الحي بالتوازي مع قصف بالطائرات الحربية، ويضيف عدنان: “قمنا بقطع الشوارع حينها مستخدمين الدواليب، وقام “الجيش الحر” بردع قوات النظام، وفي اليوم الثاني، تم تحرير الحي بشكل كامل ودخلت الكتائب إليه ترفع أعلام الثورة، وهي تهتف “الجيش الحر للأبد غصب عنك يا أسد”، و”حرية للأبد …”، ” لواء التوحيد قادم إلى دمشق””.
تحرّرت أحياء مدينة حلب الشرقية تباعاً، مساكن هنانو، الصاخور، الحيديرية، طريق الباب، وغيرها من الأحياء، حينها ظنّت كتائب “الجيش السوري الحر” بأنّها ستكون قادرة على تحرير مدينة حلب كلّها وريفها خلال أسبوع من بداية المعركة، وهذا ما ظنّه الأهالي أيضاً، لكن الحال بقي على ما هو عليه بعد أكثر من عام ونصف العام على تحرير هذه المناطق.
مع بداية المعركة نزح معظم سكان الحي بسبب قصف طيران النظام، ومن بينهم عدنان وعائلته. عدنان غادر فيما رغبته كانت بالبقاء، لكن والده قال إنه سيبقى معه إذا لم يغادر. بعد شهر تقريباً، عاد إلى حيّه حيث شعر “بمعنى الحرية”، فـ”المناطق محررة، وأعلام الثورة في كل مكان”.
مع بداية ظهور السلاح في مدينة حلب، تراجع الحراك المدني، يقول الناشط في “حي الباب” مجد أحمد، “لقد شعر شباب الحراك المدني أنه لم يعد لهم دور، والغالبية أصبحوا متفرجين، وأنا واحد منهم”. خرج مجد في العديد من التظاهرات، اعتقلته قوات النظام السوري 3 مرات في مدينة حلب، وهو اليوم يعمل في المكتب الإعلامي الخاص بالمجلس المحلي للمدينة.
أثناء عملية التحرير وبعد دخول “لواء التوحيد” إلى حلب، دخلت “جبهة النصرة”، ثم “الدولة الإسلامية في الشام والعراق” وكتيبة “المهاجرين”. “في البداية ومن منطق الحريات، قلنا ليهتف في التظاهرات كلٌّ بحسب قناعاته، لكننا في النهاية اختلفنا بخصوص اللافتات والمطالب وبعد ذلك انفصلت التظاهرات”، يقول عدنان. يؤكد مجد كلام رفيقه، ويضيف: “اليوم هناك تظاهرات مدنية تطالب بإسقاط النظام، وتعترض في الوقت نفسه على الهيئة الشرعية والكتائب الإسلامية المتشددة، وتظاهرات يغلب عليها الطابع الاسلامي المتشدد تنادي بالخلافة الإسلامية”.
من الواضح أن منطق الانضباط والغنائم يطغى على سلوك أفراد “النصرة” و”الدولة الإسلامية” أكثر من أي شيء آخر، فالمقاتلون لا يتدخّلون بالتفاصيل اليومية لحياة الحي، إلا في حالات قليلة، قد يكون ذلك بسبب الفقر المدقع فيه وقلّة المكاسب الممكنة منه، لكنهم في الوقت ذاته يلتزمون مقراتهم، مع وجود متواتر لهم على بعض الحواجز كمحاولة لإثبات الوجود.
انضمّ عدد كبير من عناصر “الجيش السوري الحر” إلى “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية”، لأنهما يمتلكان العتاد العسكري؛ يقول عدنان إن “المشكلة تكمن في أن “الجبهة” و”الدولة” لديهما القوة والسلاح على عكس “الحر”، لذلك لا نستطيع أن نطلب منهم الخروج من المدينة وريفها، لأنّي أظن أنه مع خروجهم في هذه المرحلة سنخسر المعركة”، لافتاً إلى أن “العديد من الكتائب اضطرت إلى رفع الشعارات الاسلامية من أجل الحصول على دعم”.
يقترب منّي عدنان قليلاً في نهاية الحديث، ويشير إلى هاتفه: “أرسلت لي حبيبتي رسالةً للتو، من 6 أشهر لم أرَها، فهي تسكن في المناطق المحتلة، كل ما أحلم به اليوم أن نتحرّر بشكل كامل، كي يتوقف القتل والدمار ويعود الجميع إلى منازلهم، حينها نستطيع أن نسير في الشوارع من دون ان يكون هناك احتمال لقنصنا، وأن أكمل دراستي في الفلسفة وأتخرج، أما في ما يتعلق بالمتشددين فنحن نستطيع الانتصار عليهم في الفترة القادمة”.