صفحات الثقافة

عن ذلك الهامستر الذي نمسكه/ رشا عباس

 

 

لثلاث مراتٍ متتالية، أعدت باستلابٍ مشاهدة المشهد الافتتاحي لفيلم (sin city 2). يقوم مارف (ميكي رورك) في هذا المشهد بقتل عصابة من شبّان أثرياء كانوا يلهون بتعذيب رجل متشرّد في الحيّ الذي نشأ فيه، يسارع جيرانه القدامى لمساندته بسهامهم الحادة التي تصطاد أولئك الشبّان بإتقان. عندما ينهار آخر شابٍ بقي على قيد الحياة، يحاول أن يجد مسعىً للتفاوض على حياته: “أنا ثري، أستطيع أن أدفع لك”، يصدر مارف حُكمه مشيراً إلى رقبته: “ستدفع”، ليجد الشاب نفسه معلّقاً في الهواء بمشنقة تتدلى على الفور إذعاناً لإشارة مارف، ابن الحيّ القديم.

في هذه اللحظة من الفيلم، ومع ملاحظة أنّ شعور الارتياح كان هو الشعور الطاغي حتى على الإعجاب بالعمليات الفنّية فائقة البراعة في الفيلم، كان من الواضح أنّها لحظةٌ أخرى من لحظات “القبض على الهامستر”.

هذا التعبير الذي أورده المفكّر السلوفيني سلافوي جيجك في كتاب: “تمتع بأعراضك” (Enjoy your symptom!)، يشرح الآلية الدفاعية التي قد ننتهجها في وجه الفقدان أو قسوة العالم، عبر التمسّك بجزءٍ ملموس مما نفتقده أو يؤرّقنا غيابه. اعتمد جيجك في نحته لهذا التعبير على قصةٍ تُروى في أوساط المعالجة النفسية: رجلٌ توفيت زوجته إثر إصابتها بمرض السرطان، وبدا متماسكاً للغاية بعد هذه الحادثة، كان قادراً على التحدث بصلابة حتى عن لحظاته الأخيرة مع زوجته المتوفاة خلال صراعها مع المرض. لاحظ مَنْ حوله بعد ذلك أنّه اعتاد على الإمساك بفأر هامستر صغير كانت تربّيه الزوجة الراحلة في كلّ مرة يتحدث فيها عنها. هذا الحيوان الأليف كان “الفيتش” الخاص به على حد تعبير الكتاب، التجسيد لإنكاره ما حدث. حدث أنّ مات هذا الهامستر بعد شهرين، فتداعت حالة الرجل وتمّ نقله إلى المستشفى لعلاجه من حالة الاكتئاب الحادّة التي واجهها.

يدعونا جيجك بناء على هذه القصة لأن نسأل أي شخص يدّعي أنّه متقبّل بصلابةٍ وتماسك وقائع الحياة كما هي: “حسناً، ولكن أين هو الهامستر الذي تمسك به؟” أي ما هو الأمر الذي يجعلك تتقبّل ما يحدث حولنا كما هو؟

بالعودة إلى فيلم “سين سيتي”، فإنّ الانجذاب لأفلام وأعمال الأكشن النموذجية في فترات الضيق ليس جديداً بالطبع، وليس جديداً أن تتحول هذه الأعمال بطريقةٍ ما إلى هامستر جيجيك ذاك؛ الجزء الصغير من فقدان مؤلم أو حتى من العالم المُتخيَل الفاضل (اليوتوبيا) الذي يؤرقنا غيابه واستحالة وجوده، حيث العدالة محميةٌ دائماً من قبل مقاتلين خيّرين بقوى خارقة، ولا تبدو معاركهم مع الشرّ سوى مغامرةٍ مشوّقة محسومة النتائج. هل تذكرون تاريخ ولادة سوبرمان، الرجل الخارق المُطلق؟ في العام 1938 لم يكن الأمريكيون قد تعافوا تماماً من تبعات الكساد الاقتصادي الكبير الذي تبع انهيار سوق الأسهم (الثلاثاء الأسود)، رغم بدء خطّة روزفلت الإنعاشية، وكانت التغيرات السياسية المُحبطة في العالم تتجه صوب حربٍ عالمية ثانية، بعد صعود تيارات متطرفة مثل النازية والفاشية في أوروبا. بالتزامن مع هذه الأحداث، بدأت روايات الأبطال الخارقين المصورة بالانتشار على نطاق واسع جنباً إلى جنب مع أفلام ديزني للرسوم المتحرّكة، وكانت هوليوود تمرّ بما سمّي حقبتها الذهبية، حيث كانت ثنائية (الطيب – الشرير) مع النهاية السعيدة لهذا الصراع، ثيمةً مهيمنة على معظم إنتاجاتها التي نالت شعبية واسعة.

ليست أفلام الأكشن وسرديات الأبطال الخيريّن وحدها ما يدخل في هذا التعويض المؤقت، المخدِّر قليلاً ربما، عن غياب ذلك العالم العادل المشتهى تارةً أو الأليف الذي فقدناه تارةً أخرى. هناك أشكال واضحة وملموسة أكثر: مفاتيح البيوت القديمة، وهي عادة فلسطينية شاعت بعد النكبة في الأساس، والتحف الصغيرة التي كانت موجودة في البيوت ويصرّ الكثيرون على توضيبها في حقائبهم رغم محدودية الوزن المسموح نقله لدى السفر.

قد يكون من صور النكران الأخرى اجتراح أساليب عيش وتفاعل في المجتمعات الجديدة مشابهة للمعتاد، ذلك المعتاد الذي قد يحاول الكثيرون منّا إنكار ذهابه حتّى الآن. من بين عشرات الخيارات التي توفّرها المدن الجديدة لمن لجأوا في الغرب بعيداً عن عالمهم، قد تكون البهجة هي العثور على مقهىً شرقي أو معارف قدامى أو بقاليةً توّفر المنتجات الغذائية التي كنّا معتادين على رؤيتها في منازلنا. محاولة خلق بيئة استعادية متضمنة في يوميات الحياة الجديدة لطالما ارتبطت بظرف الهجرة والتغرّب، إنّما قد تكون أكثر إلحاحاً في حال كان هذا الظرف إجبارياً ومتزامناً مع الخوف من تلاشي معالم الأمكنة الحاضرة في الذاكرة.

كل ذلك ليس دعوة بالطبع لرمي تلك الفئران التي نقبض عليها بإصرار، إذ يحقّ للمرء أن يجد لنفسه مساحة يدفع فيها عن ذاته كل هذا الجنون دون أن يتلقى النصائح بشأن ذلك. ليتمسّك كلٌّ منا بما يحمله إذاً حتى يموت الفأر أو تموت حاجتنا إليه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى