من قواعد الاشتباك إلى قواعد التحالف/ طوني فرنسيس
لم يعد أحد يتحدث عن غارة القنيطرة ولا عن رد حزب الله في مزارع شبعا. اسرائيل التي قتلت جنرالاً ايرانياً وستة من عناصر الحزب في هجومها داخل الجولان تقبلت الرد المنضبط لحزب الله في المزارع وقتله جنديين اسرائيليين. الحزب اكتفى بعمليته متوعداً ان ما بعد القنيطرة ليس كما قبلها وأنه في حل من «قواعد الاشتباك» التي سادت طوال الفترة الماضية بينه وبين اسرائيل. اما ايران فقد خفت صوتها تماماً، الى حد اعتبارها رد حزب الله جوابها الخاص على «التحرش الصهيوني».
في الأثناء دب نقاش داخل اسرائيل، المكان الوحيد الذي حصل فيه نقاش فعلي، حول جدوى الهجوم على الدورية الإيرانية – اللبنانية في القنيطرة السورية. وتناول كتاب ومحللون مختلف جوانب الحدث وأبدى مسؤولون ما يشبه الاعتذار عن مقتل الجنرال الإيراني وذهب آخرون الى إدانة سلوك رئيس الوزراء بنيامين ناتانياهو وأمره بالضربة واتهموه بتوظيفها في معركته الانتخابية (في آذار/ مارس المقبل) وقال غيرهم انه يغامر بعلاقة اسرائيل مع اميركا والرئيس اوباما شخصياً المنهمك في مفاوضات صعبة مع ايران، وحضه كل هؤلاء على عدم تصعيد الأمور والامتناع عن تلبية دعوة الكونغرس لإلقاء خطاب ضد تلك المفاوضات.
انكفاء الحدث الإسرائيلي والرد الذي استحضره لا يعودان فقط الى خشية الأطراف المعنية من انفجار واسع، ولا الى معرفتها بالحدود التي يسمح بها القرار 1701 شداً وجذباً، بل الى انخراط الجميع في معركة مفصلية اشمل على مستوى المنطقة، هي التي غيرت فعلياً قواعد الاشتباك وفرضت اسساً معلنة وغير معلنة لتحالف واسع في مواجهة «عدو» مختلف اسمه الإرهاب، تستوجب المعركة ضده اصولاً وحسابات مختلفة.
نجح «داعش» في شكل منقطع النظير بإرساء تحالف دولي وإقليمي ضده تحت مسمى محاربة الإرهاب والتطرف والتكفير. لم تتوحد القوى الدولية في شكل مماثل الا في 2001 بعد ان نفذ تنظيم «القاعدة» هجماته في الولايات المتحدة، فنشأ التحالف الذي احتل افغانستان وقضى على سلطة «طالبان» فيها. الا ان التحالف الجديد يعاني خللاً داخلياً بنيوياً. فـ «داعش» قبل اجتياحه مناطق شاسعة في العراق، كان يحتل اجزاء من سورية انتزعها من معارضي نظام الرئيس بشار الأسد، وهؤلاء كانوا ولا يزالون في حرب دموية مع الأسد وإلى جانبه حليفه الإيراني. الآن تلتقي ايران وأميركا في حرب واحدة تجمع اضداداً من كل صنف، عرب يرون في ايران تهديداً، وفارسيون يسعون الى توطيد نفوذ مذهبي في اكثر من موقع، وأتراك يلتبس موقفهم بين مستفيد من «داعش» ومتخوف من المستقبل بعد القضاء عليه. اميركيون امضوا اكثر من ثلاثة عقود في حالة عداء مع طهران وأكراد في مقدمة حرب دفاعاً عن «عرب» وفرس وأتراك لا يعترفون بهم، وصولاً الى اسرائيل التي ترتاح الى الخراب الشامل داخل الدول المحيطة لكنها تخشى تحكم متطرفين بدلاً من أنظمة ضمنت أمنها عشرات السنين.
اضف الى ذلك اختلاف الأولويات بين هذه الأطراف والقوى، فالطرف الإيراني يخوض الحرب ضد «داعش» والتنظيمات المماثلة، دفاعاً عن نظام الأسد وعن النظام العراقي، وإلى جانبه تنتظم أحزاب وميليشيات «الممانعة» من حزب الله في لبنان وصولاً الى «بدر» وغيرهما في العراق، وفي المقابل تنخرط دول اساسية في الخليج في المعركة بوصفها معركة ضد التطرف والإرهاب لن تنتهي الا بتغيير الأنظمة التي تسببت بممارساتها المذهبية والاستبدادية في نشوء الإرهاب وتنظيمه واستعماله لأهدافها خصوصاً في سورية وفي العراق.
لا شك في ان ابطال الحرب على «الإرهاب» يدركون جميعاً هذه الاختلافات بل التناقضات التي تعتري تحالفهم، ومع ذلك فإن سير الأمور يوحي بأن العلاقات تتوطد خلال المعارك. لقد انتبه الأسد مبكراً الى هذه الحقيقة فطرح نفسه شريكاً للأميركيين مثلما هو شريك لحزب الله والإيرانيين والروس… ومنذ بدء العمليات الجوية للتحالف بدا ان هناك تنسيقاً عملياتياً فعلياً جعل بعضهم يجزم ان في سورية جرى تقسيم النشاط الحربي الجوي على فترتين: منذ الفجر وحتى الظهر لطيران التحالف وبعد الظهر حتى المساء لطيران النظام وبراميله.
لم ينكر احد وجود التنسيق العملي. الأسد نفسه قال ان المعلومات تأتيه عبر بغداد، ما يعني ان المعلومات اياها تصل الى طهران وقواها العاملة على الأرض، مثلما تصل مباشرة من الأميركيين الى الإسرائيليين.
في المشرق العربي حصل شيء جديد. لقد تغيرت قواعد الاشتباك القديمة (عرب في مواجهة اسرائيل) وحلّت بدلاً منها قواعد تحالف من اجل اشتباك آخر. ولن تتضح الصورة قبل ان ينهي التحالف الملتبس حروبه المتعددة الأهداف والغايات. وفي الانتظار ستقبع غارة القنيطرة ورد شبعا عليها عميقاً في الذاكرة.
* صحافي من أسرة «الحياة»
الحياة