من هدر الدم السوداني.. لن يزعجه الدم السوري
محمد رشيد
الجامعة العربية تعتبر اختيار السوداني الفريق أول “محمد أحمد الدابي” رئيساً لهيئة المراقبين العرب، إنجازاً دبلوماسيا وعسكرياً كبيراً لا مثيل له في التاريخ العربي نظرا لخبرته الواسعة، دون أن تكشف لنا، هل خبرة الفريق أول “الدابي” تتمثل في القتل أم في منع القتل؟ ، في حين، وعلى الجانب الآخر من الصورة، يتوجس عدد كبير من قادة المعارضة السورية من هذا التعيين، ويعتبرونه “طعنة” في ظهر الشعب السوري وثورته، بل إن بعضهم ذهب الى حد التأكيد أن “الدابي” متورط في جرائم الإبادة الجماعية، وإنه مسجل على لوائح محكمة الجنايات الدولية بصفة “مشبوه”، دون أن يتمكن محققو الجنائية الدولية من العمل الميداني، تجميع ما يكفي من أدلة إدانة، إذ استطاع بخبرته المخابراتية الطويلة أن يضلل المعلومات والوقائع، ولكن لا شيء في المنطق يصمد أمام حقيقة أنه كان رئيسا للاستخبارات العسكرية، ومن ثم نائبا لرئيس أركان الجيش السوداني، وأن يده ظلت بعيدة عن الدم السوداني، ويشار بتوجس كبير خاصة إلى دوره في تأسيس ورعاية “حركة الجنجويد” المتهمة بفظائع خطيرة في دارفور.
لكن الفريق أول “الدابي” قطع بالخبر اليقين دابر التصنيفات والتوصيفات التي طالته منذ إعلان الجامعة العربية عن رئاسته لهذه المهمة، عندما عبر عن “ارتياحه” لأوضاع “حمص” في أول تصريح علني له، مضيفا أن الحالة في تلك المحافظة المنكوبة تبدو له “مطمئنة”، أما لماذا شعر سيادته بالاطمئنان،؟ لأنه وحسب أقواله لم ير دبابات بأم عينه!!!، بل رأى بعض المدرعات!!!، وكان السوري لا يقتل الا بالدبابات، لكن الدابي رأى، بالعين الأخرى مسلحين مدنيين في حمص؟!! حسب ما سرب لقناة الدنيا، وكل تلك الإشارات المتداخلة ليست صدفة، بل الرجل يضع سقفا لطبيعة عمل المراقبين، ويحجب بين المراقب و بين عقله وقلبه، ويحجب بين البعثة ومهمتها الأساسية، مراقبة وقف القتل بكل الوسائل، ليس بالدبابات فقط، وتقصي حقائق ما حصل على امتداد الشهور العشرة الماضية، بغير ذلك تفقد هذه البعثة أدنى قيمة لها، بعد أن فقدت، وقبل أن تبدأ استقلاليتها لصالح النظام، وهي اليوم تنام في فراش النظام.
إذن، سيادة الفريق أول “الدابي” لم يسكت دهرا، لينطق كفراً، بل بادر الى الكفر، وهو لم يجد بعد كرسيا يجلس عليه ليراجع أولى تقارير مراقبيه، والسبب في ذلك التصريح الصادر عن “الدابي” هو قطع الطريق أمام أي توقع غير واقعي، ومن أي كان، حول طبيعة مهمته أو حول وجهته المستقبلية، أو حتى حول شخصيته المثيرة للجدل، تلك التصريحات السابقة لأوانها، من رئيس البعثة، الذي شاهد العالم كله مباشرة على الهواء سلوكه وسلوك مراقبيه في بابا عمرو، و هم يخيبون ظنون و رجاءات السوريين لهم بدخول تلك المنطقة المنكوبة من حمص ، و رفض الناس الحديث اليهم بحضور ضابط سوري ، و رفضه التحدث اليهم الا بحضور الضابط السوري ، فإذا كان ذلك السلوك و تلك التصريحات ” العنوان ” يصبح من اليسير معرفة ما في ” المكتوب” نفسه .
و المشكلة الكبرى في واقع الامر تتكثف في معايير الجامعة العربية ، و قواعد الاختيار لممثليها و لا يبدو لي ان لدى الفريق الدابي تعليمات محددة ، بل هو يعمل وفق مفهوم ” ارسل جنرالا و لا توصيه ” ، و قطعا ليس لدى المراقبين أي كتيب تعليمات تشرح لهم واجباتهم تجاه الشعب السوري ، و حقوقهم تجاه النظام ، و ليس هناك ما يمكن ان يقنع اي مواطن في حمص و حماة و درعا و أدلب و دمشق و ريفها ، ان اختيار الفريق الدابي بريء او محايد ، لانه اختيار ، لا هو بريء و لا هو محايد ، بل مقصود و منحاز و موجه و بهدف ضمان النتائج مسبقا ، و لن يحدث العكس الا في احدى حالتين ، الاولى ، ان تعمل طواقم المراقبين بشيء من الاستقلالية عن رئيسهم ، على ما في ذلك من تعقيدات لمهمتهم ، و اما الثانية ان ينقلب الفريق ” الدابي ” على نفسه و على تاريخه الطويل ، و هذا تعقيد صعب له لانه خروج عن الخط العام الذي رسمته الخرطوم .
فنظرة بسيطة الى عمر الرجل ، و خدمته الطويلة في الجيش السوداني ، في ذروة الحروب الاهلية مع الجنوب ، و دارفور ، و ما هو مؤكد من مذابح و مجازر ، و ما رأى ” الدابي ” و عاش من اهوالها الفظيعة ، و التي يقال انه شارك في بعضها حسب ” شبهات ” المحكمة الجنائية الدولية ، تجعل منه شخصا فاقدا للاهلية تماماً لهذه المهمة الخطيرة ، لان أحكامه على الاحداث سوف لن تبعد كثيرا عن قناعاته الشخصية و المهنية ، و لن يستطيع ان يوجه التهمة الى النظام السوري ، دون ان يفكر ان معاييره قد تستخدم لاحقا ضده و ضد رئيسه عمر البشير ، خاصة و ان الرجل يعتبر بحكم مواقعه الحساسة في الجيش السوداني ، او بحكم صمته شريكا في هدر دماء مئات الآلاف من السودانيين ، و من يهون عليه هدر دماء مواطنيه ، لن يزعجه تجاهل دماء السوريين .
و من وجهة نظري المتواضعة ، على المجلس الوطني السوري التوجه رسميا و بصورة عاجلة الى المحكمة الجنائية الدولية ، و الطلب اليها إماطة اللثام عن ملف الفريق اول ” محمد احمد الدابي ” ، و هل هو متهم ام مشبوه ؟ ، و اذا كان متهما ، عندئذ على سيادة الفريق التوجه فورا الى لاهاي ليبرئ نفسه ، بدلا من ان يكون رقيبا قوميا رسميا على نظام دموي اخر ، و هذه ابسط قواعد استبعاد شبهة تضارب المصالح ، لكن دور رئيس طواقم المراقبة ، يحتاج من يملك تاريخا عسكريا مشرفا ، و هناك الكثير ، حتى في السودان نفسه ، الا الفريق الدابي الذي احترق في نظر السوريين قبل ان يبدأ .