مها حسن: المستقبل لرواية المرأة
علياء تركي الربيعو
لا يمكن للكتّاب العرب اليوم، تجاهل ما يحدث حولهم. الواقع السياسي يفرض نفسه على الإنسان، والروائي يحاول ملامسة ألم الإنسان وطرح معاناته دون أدلجة.
الروائية مها حسن، من مواليد مدينة حلب، سورية، مقيمة في فرنسا منذ عام 2004، صدرت لها روايات عدة منها: “اللامتناهي ـ سيرة الآخر” (1995)، رواية “لوحة الغلاف – جدران الخيبة أعلى” (2002)، “تراتيل العدم” (2009)، “بنات البراري” (2011)، “طبول الحرب” (2012). رشحت روايتها “حبل سـري” للقائمة الطويلة لجائزة البوكر (2011). كذلك رشحت “الراويات” لجائزة البوكر لعام (2015). صدرت لها رواية مؤخراً بعنوان “مترو حلب”. شاركت في العديد من النشاطات الثقافية والإبداعية في أوروبا والعالم العربي. كذلك كتبت لصحف ومواقع عربية كثيرة منها: جريدة السفير اللبنانية، مجلة العربي الكويتية، ومجلة الدوحة. حائزة على جائزة هلمان هاميت عن هيومان رايتس ووتش عام 2005 التي تُمنح للناشطين في حقوق الإنسان.
في هذا الحوار تؤكد حسن أن العالم المشرقي لا يزال يخزّن كنوزه، ولم نكشتف بعد ما لدينا. وهو الرهان الذي تطرحه في حديثها عن مستقبل الرواية المشرقية هنا:
* أنت مقيمة في فرنسا منذ أكثر من عقد، كيف أثرت هذه الإقامة في تجربتك الروائية؟
العلاقة بالمكان مهمة جداً بالنسبة للكتابة الروائية برأيي، فالفضاء المُغاير يغذّي المخيلة، ثم تأتي الثقافة الجديدة، لتُثري الثقافة الأولى. أعتقد أن المُنجز الذي حقّقته لي الإقامة في الغرب، هو الخروج من النظرة الواحدة والصارمة للأشياء، والحسم المعرفي. هنا اليقين منسوف تماماً، يحل مكانه ثقافة الحوار وعدم الإذعان العاطفي الموجود في بلادنا، المختبئة خلف مفاهيم كثيرة، تكرّس القطيعة في حال الاختلاف بالمزاج أو الرأي. هذه المساحة من الحرية الداخلية تجعلني أكثر حرية في الكتابة، وتُغيّب دور الشرطي اللصيق بي منذ بواكير التربية الأولى. رمز الشرطي هنا، لا يدعو للخوف أو المطاردة أو الهرب، بل يعتمد على الكثير من النديّة وحفظ الحق بالتصدي ورفض السلطة. هناك مواقف كثيرة كانت تدهشني في بداية عيشي هنا، ولسنوات متعددة، حتى تعلمت أن أعبّر دون خوف. أن يلجأ رئيس دولة إلى القضاء، بسبب شتم مواطن له (حادثة حصلت مع ساركوزي في معرض المنتجات الزراعية)، هو ثقافة جديدة عليّ، أكتسب منها دائماً مهارات غير مألوفة، في الاعتراض والمخالفة، والدفاع عن وجهة نظري، أو التراجع عنها حين أكتشف أنني كنت مخطئة، دون أن يكون تراجعي أيضاً هزيمة أو انكساراً. دائماً أسأل نفسي، لو أنني كنتُ الآن في سورية، هل كنتُ سأكتب ما كتبته؟
*ذكرت في روايتك “حبل سري”، أن المستقبل للرواية المشرقية، لأن منطقتنا غنية بالروح والجدل، منطقة حيوية رغم العنف والجهل والحروب والاستبداد.. هل ما زلت متفائلة؟
هذا الرأي لا يحمل التفاؤل، بقدر ما يحمل رؤية التغييب الكبير للطاقات الإبداعية في المشرق، وقد قلتُ في المكان ذاته، في رواية “حبل سري”، إن المستقبل لرواية المرأة، وأنا لا أزال مؤمنة بهذا. لقد فُتنتُ ذات يوم بكتابات ليفي شتراوس عن الأراضي الخصبة المجهولة، وكتابه “المداران الحزينان” يُعتبر بالنسبة لي، وللكثيرين غيري، بمثابة رواية. هذه الكنوز المدفونة، متوفرة بسخاء في بيئتنا، حتى إن الكثير من الكتّاب الغربيين يحاولون النهل من تاريخنا وعوالمنا، وأنا أظن، ويبدو التعصب قليلاً في ظنّي هذا، أن العالم الغربي الحداثي والقائم على التكنولوجيا، لا يخدم الروائي كثيراً، لخلوّه من الروح التي تشتعل في عوالم السرد والشخوص والمكان، لهذا فإن أدب أميركا اللاتينية بالنسبة لي، هو الأدب الأكثر مساساً بالروح، لخصوبة هذه المنطقة. لكن العالم المشرقي لا يزال يخزّن كنوزه، ولم نكشتف بعد ما لدينا. أظن أن خروج هذه العوالم سردياً، هو الرهان الذي أطرحه في حديثي عن مستقبل الرواية المشرقية.
*تطرح رواياتك قضايا تتعلق بواقع المرأة العربية، سواء في “حبل سري” أو “بنات البراري”، هل توافقين على وصف عملك بأنه يندرج تحت مسمى “الأدب النسوي”؟
أنا لا أؤمن بمصطلح (الأدب النسوي) الذي أشعر بأنه يحمل نظرة فوقية صوب أدب المرأة. بل قد يراني البعض مُغالية، حين أتحدث عن الإبداع النسوي وأن حواء هي الصورة الأولى للإبداع، ورمز الشغف المعرفي والمغامرة الذهنية. ومع أنني ضد هذا التقسيم “الجندري” للأدب، لكنني متأكدة أن كل ما كتبته، كان لأنني امرأة. وأيضاً أطرح على نفسي سؤالاً مقلقاً: لو كنتُ رجلاً، هل كتبتُ ما كتبت؟ ربما لو كنتُ رجلاً، لاشتغلت على التيمات ذاتها. وهناك الكثير من الروائيين الرجال، الذين أشعر بأنني أشبههم، أو أن عوالمنا متقاربة. هناك روائيون عرب أيضاً، كتبوا دون ابتذال عن عوالم النساء. يبقى الفيصل دائماً للحكم على تصنيف هذه الكتابات، هو مستوى النص. هناك رواية جيدة وهناك رواية سيئة، وأعترف بأن نسبة الروايات السيئة في العالم العربي فقط ـ ليست هي الحال في الآداب الأخرى ـ هي روايات كاتباتها نساء، والسبب هو الخلل الذي يدفع المرأة إلى الكتابة، إذ بدلاً من أن يكون دافعها الشغف والمعرفة (نموذج حواء أعلاه)، تأتي الكتابة لتلبية هوس مرضي، لتكون شكلاً من أشكال الاستعراض، أو الانتقام من خيبات شخصية مع الرجال أو محاولة للتحدي المُؤسس أصلاً على الشعور بالنقص وعدم المساواة.
*تختزنين في ذاكرتك قصصاً كثيرة لنساء، تنشغلين بحكايتهن وتسردينها بأسلوب خاص وعاطفي، كما قرأنا في “الراويات”، كيف ترسمين الحد الفاصل بين العاطفة والمحافظة على مستوى الإبداع؟
بالعودة إلى بداياتي، هناك رواية لي بعنوان “تراتيل العدم”، هذه الرواية لاقت صعوبة في التلقي من قبل القارئ العربي، والناقد أيضاً. أحد أساتذة الأدب العربي في جامعة باريسية، انتقد الرواية، وقال إنه أستاذ ومختص بتدريس الأدب، لكنه شعر بأنه بحاجة إلى قاموس ليقرأ هذه الرواية، وصديق آخر، قال إنه يفهم هيغل، ويعجز عن فهم روايتي، وهناك أمثلة كثيرة حصلت لي مع هذه الرواية. هكذا بدأت، سرداً شائكاً (الوصف لأحد الذين كتبوا عن الرواية)، وأعتقد أن جذر كتابتي يقبع هناك… كل هذا الكلام، أريد أن أخرج منه بأنني أمتلك مادة خاماً تحميني برأيي من الانزلاق في طرح رواية (سهلة). أنا مغرمة بالتكنيك واللعب داخل النص، لهذا لا أخاف على نفسي، من طرح كتابة تبدو مخلوطة بالعاطفة، التي أمتلك قدرة توجيهها (كما أظن)، وأهدف منها التأثير في القارئ، لكسب صداقته، وتقريبه من عالمي.. أعني أننا نستطيع أن نلعب في الكتابة، دون أن نتنازل عن المستوى الذي نطمح دائماً في الحفاظ عليه في سرد يكون دائماً جيداً وجديداً.
* في “الراويات” تطرقت إلى ثورة 25 يناير في مصر، كذلك تناولت الأحداث السياسية السورية في روايتك “طبول الحب”، ألا يضر الحضور السياسي المباشر بالرواية، كعمل إبداعي له شروط مختلفة يستمدها من عناصره نفسها؟
أعتقد أنه لا يمكن للكتّاب العرب اليوم، تجاهل ما يحدث حولهم. الواقع السياسي يفرض نفسه على الإنسان، والروائي يحاول ملامسة ألم الإنسان وطرح معاناته دون أدلجة. نحن نعيش في عصر متقلّب بشدة، وهناك مراهنات فاشلة على الحقوق والعدالة والحريات، وهذا كله يدخل في هاجس الرواية، التي هي بشكل ما، أرشفة لتاريخ الشعوب، أرشفة صادقة دون خلفيات أو مصالح سياسية. هناك روايات مهمة، ضفرت الهاجس الفني مع السياسي، ولم تقع في البساطة أو الفجاجة. إيزابيل الليندي مثلاً، إحدى البنات الوفيات للواقعية السحرية، تمكّنت من تقديم أعمال ساحرة، تمزج فيها بين الفانتازيا، وبين مواقفها من الاستبداد السياسي. الرهان في آخر الأمر، هو جودة النص. ربما حضرت ثورة 25 يناير في نص “الراويات” الفانتازي إلى حد ما، للتأكيد على ارتباط المرأة ـ الراوية بالواقع حولها، وربما تقنياً، كان لا بد من تطعيم تلك الفانتازيا، ببعض الواقع. أما “طبول الحب”، فهي تجربة مختلفة، وذات حساسية خاصة بالنسبة لي، كتبُتها تحت ضغط عاطفي عنيف، وهي تؤرشف الثورة السورية روائياً، وأرى أنها كانت يجب أن تكتب، بما تحمله من مباشرة، بسبب التقلبات الشديدة والسريعة التي حدثت للمشهد السوري، بحيث ينسى العالم اليوم، كيف ولماذا خرج السوريون. أظن أن الرواية هي أيضاً ذاكرة الشعوب، واليوم، يصعب على الروائي السوري توثيق ذاكرة السنة الأولى للانتفاضة الشعبية، بسبب انشغاله بالتقلبات التي ذكرتها للتو. في هذه الرواية، لم يكن لدي رفاهية الاسترخاء لتقديم عمل (يستمد عناصره من نفسه) وفق صيغة السؤال. كان الواقع السوري، ولا يزال، من المباغتة والإدهاش، بحيث نحّى المخيلة، وفرض عليّ كتابة رواية لا تشبه رواياتي الأخرى، لتبدو هذه الرواية، كأنها رواية مريضة، كأنها طفل أُنجب في ظروف قبيحة، فلا يُرغب بمجيئه، ليأتي مريضاً وهشّاً، ويصبح لاحقاً الطفل الأثير، ربما بسبب هشاشته ذاتها.
*في “مترو حلب”، هل كانت العودة المفاجئة إلى مدينة حلب، في نهاية الرواية، تداوياً من المنفى الباريسي؟ أم كانت رحيلاً من منفى إلى آخر بعد أن حوّلت الحرب في سورية كل الأمكنة إلى دمار وخراب؟
الحديث بالتأكيد عن سارة، التي لا تشبهني. والتي لم تكن تعرف ماذا تفعل، وتعيش الحيرة واللايقين مما حولها، لتبدو دائماً غريبة ومصدومة وحالمة بالعودة. لهذا أعتقد أن خيار البقاء في المنفى، لا ينسجم مع شخصيتها، على عكس خالتها، القوية، الطموحة، التي تخلت عن كل شيء في بلدها، من أجل حلمها في المنفى، وانتمت إلى ذلك المنفى ليصبح بلدها وهويتها. أردت الحديث عن المفاجأة التي سقطت على رؤوس المهاجرين أو اللاجئين السوريين، فأدت إلى عدم التكيف، لأنهم لم يختاروا المغادرة. أظن أن عودة سارة كانت بمثابة تطهّر من ذنب ترك البلد أثناء الحرب، وخاصة بعد موت أمها في تلك الحرب.
* ترين بأن الرواية اللائقة أو القريبة من المشهد السوري، لم تُكتب بعد. كيف تقيّمين أداء وحضور الرواية السورية اليوم، وهل ترين أن هناك استعجالاً في كتابة الرواية والتوثيق للأحداث في سورية؟
أعتقد أنني قلت هذا الكلام قبل أكثر من عام، وخلال هذه الفترة، حدثت بعض التغييرات في المشهد الروائي السوري، وظهرت أعمال جديدة. ربما من الصعب على الرواية السورية أن تكون لائقة بالمشهد السوري، بسبب كثافة وتعقيد هذا المشهد، وصعوبة الإلمام به روائياً، وربما لأنني متطلبة، وأحلم برواية ضخمة من نوع (الحرب والسلام)، أو غيرها من الأعمال الكبيرة. أما عن الاستعجال، فأعتقد أننا، كما بينت أعلاه، شهود على الواقع، وعلينا رصده في حينه أحياناً، بسبب التقلبات. ويبقى الأمر في النهاية هو حالة مزاج خاص بالروائي ذاته دون غيره، يختلف بطريقة تعاطيه مع ما حوله. لكنني شخصياً مع فكرة الكتابة الطازجة والآنية، لأنها توثّق أيضاً نظرتنا الطازجة ذاتها، والتي قد لا تبدو ناضجة، لكنها إنسانية، وتحمل بُعداً فنياً، عبر هذا اللانضج ذاته، حيث النقص الفني أحياناً هو توثيق لحالة الخلل الواقعي التي يحياها البشر أثناء الحروب.
*هناك ملاحظة تتعلق بما يشبه الغياب للرواية السورية “المعارضة” (إن جاز التعبير) عن قوائم الجوائز العربية، أيتعلق الأمر بعدم وجود رواية سورية “جديرة” بدخول قوائم هذه الجوائز في السنين الأخيرة، أم أن هناك تفسيراً آخر، برأيك؟
دعيني أستبدل الوصف الذي وضعتِه بين مزدوجتين، لأقول، بين مزدوجتين أيضاً، بل “رواية الكتّاب المعارضين”، حيث لا أعتقد بوجود الرواية المعارضة. الروايات المقصودة، هي روايات تعبّر عن الواقع السوري الحالي، مكتوبة بطريقة فنية، تختلف من روائي ـ أو روائية ـ لآخر، تحاول الإصغاء لجميع أصوات السوريين، من معارضين وموالين وصامتين..الخ. ولكن التفسير الذي أميل له، بعد قراءة بعض المقالات حول الأمر، أن ما حدث بمثابة معاقبة للكتّاب على مواقفهم السياسية، وليس لأن الروايات ليست جديرة بالجوائز. وإذا كان هذا ما حدث، وسيُظهر التاريخ ما خُفي اليوم، فإن الأمر طريف، لأننا نسمع أحياناً عن جوائز تُمنح لاعتبارات سياسية، وهذا أيضاً ظلم للكتابة، ولكنني لم أسمع بجوائز تُحجب لأسباب سياسية.
في النهاية، نحن لا نكتب من أجل الجوائز، وإن كانت للجوائز أهميتها في إشهار الكاتب، وإنصافه إلى حد ما. نحن أصحاب مشاريع إبداعية وهواجس فنية وفكرية، ونتابع الكتابة، وأنا مؤمنة بالعدالة، التي مهما تأخرت، تصل.
ضفة ثالثة