موت المعنى في “الحوار الوطني”
حازم نهار
يضيع وهج الكلمات وتموت معانيها عندما لا تجد ما يسندها على الأرض، أو عندما تُدرج في سياق الخطاب المعدّ للاستهلاك والتغطية على حقائق الأمور، خاصة إذا ما ترافقت مع المبالغة في تكرارها من قبل طرف سياسي لم يكن من عاداته في السابق التفوه بها. هكذا تعاطى النظام السوري مع معظم المفردات والتعابير الشائعة في خطابه السياسي، وآخرها التعبير المستجد: “الحوار الوطني”.
إذ على الرغم مثلاً من وجود ما يشبه الإجماع لدى الشعب السوري في شأن اعتبار إسرائيل عدواً أكيداً، والنظر لمقاومتها بكافة السبل أمراً شرعياً ووطنياً، إلا أن الكتلة الأكبر من السوريين تتعامل بالسخرية مع كل شعارات النظام التي تفصح عن العداوة لإسرائيل، وكذا الأمر مع المفردات الملحقة بهذه الشعارات مثل “المقاومة” و”الممانعة” وغيرها، أو التعابير التي تشير إلى التضامن العربي، كشعار “وحدة المصير والمسار” الخاص بالعلاقات بين سورية ولبنان أو المفردات المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
والموقف ذاته يصدق على كل التعابير والشعارات الخاصة بالوضع الداخلي، مثل “الإصلاح” و”التحديث والتطوير” و”مكافحة الفساد”، و”الاشتراكية” وغيرها، فكل هذه التعابير لم يحدث تقدم فعلي منتج باتجاهها، في الوقت الذي كان النظام ينخر فيه رؤوسنا بتردادها وتنظيم الشروحات لها. وربما لذلك تشكلت قطيعة نفسية معها لدى شريحة واسعة من السوريين، وهي في الحقيقة قطيعة مع النظام أصلاً وليس مع مضامين هذه المعاني والكلمات، لدرجة تجعلنا نقول إن النظام يستحق براءة تقدير في تفريغ الكلمات من معانيها ومضامينها الحقيقية. تماماً كما يحدث في الحياة العادية عندما نفقد القدرة على الاستماع إلى شخص عرفنا في مناسبات عديدة أنه لا يصدق في أبسط الأمور.
هكذا فعل النظام بتعبير “الحوار الوطني” خلال العامين الأخيرين مجرِّداً إياه من كل بريق، فبعد أن كان هذا التعبير من العناصر الأساسية في الخطاب السياسي للمعارضة السورية طوال عقد من الزمن على الأقل، أصبح تعبيراً مثيراً للاشمئزاز، ربما لأن خبرة المعارضة بالنظام تعادل خبرة أهل القرية بالراعي الذي أرهقهم مرات عديدة بالحديث زوراً عن الذئب الذي هجم على غنماته، وعندما هجم الذئب فعلاً لم يجد الراعي من يصدِّقه.
على الرغم من ذاكرتهم السوداء بالنظام في الماضي، فقد تعامل المثقفون والمعارضون، بل والسوريون عامة، مع خطاب القسم في العام 2000 بإيجابية لمجرد خروج معانٍ تفيد بأن “العهد الجديد” يمكن أن يعترف بالرأي الآخر، إلا أن الواقع الفعلي خلال السنوات العشر ما قبل الثورة أظهرت أن أبواب المعتقلات كانت مفتوحة على مصراعيها لكل صاحب رأي.
بالنسبة لعامة السوريين كان من الصعب أن يتعاطوا بجدية، نفسياً على الأقل، مع تعبير “الحوار الوطني” المطروح إلا من خلال السلوك الفعلي للنظام ممثلاً بالقتل والاعتقال وتعذيب البشر وإذلالهم واجتياح المدن وتدميرها. أما المعارضة، بتلاوينها كافة، التي تمنَّت طوال عقد من الزمن خروج كلمة واحدة من النظام تفيد بقناعته بمبدأ الحوار الوطني، الذي يعني في الجوهر اعترافه بوجود شركاء له في الوطن، فإنها رأت أن النظام لم يذهب في اتجاه الحديث عن “الحوار الوطني” إلا مضطراً بعد الضغوط التي خلقتها التظاهرات الشعبية، وهو ما جعلها بداهة حذرة وغير واثقة بنوايا النظام وأهدافه.
أصبح تعبير “الحوار الوطني”، منذ الأشهر الأولى للثورة وحتى اليوم، يتصدَّر خطابات رجالات النظام وإعلامييه ومواليه، إلا أن النظام سرعان ما حوَّله إلى تعبير باهت لا معنى له، تماماً كسائر مفرداته، كونه لم يتزامن مع ممارسات حقيقية تشير إلى تغيّر حقيقي في النهج الاستبدادي السائد، ليتحول بالتالي إلى مجرد غطاء لإخفاء البشاعات المرتكبة بحق السوريين من جهة، وبحكم الآلية المعتادة لإعلام النظام ومواليه في مدح وتبجيل كل ما يصدر عنه من شعارات وتعبيرات بأساليب بائسة ومثيرة للاشمئزاز من جهة أخرى.
لقد تعامل النظام مع تعبير “الحوار الوطني” وكأنه المكتشِف لهذا الاختراع العظيم، وبدأت الندوات والمقالات والمقابلات الرسمية تتحدث عن رغبة النظام بالحوار، وفضائل الحوار، والحكمة في طرح الحوار، وكون الحوار “بات عنوان المرحلة المقبلة”، حتى ليخال المرء أن هذا التعبير واحدٌ من “منجزات” النظام الفريدة في الحكم والإدارة أو “مكرماته”، وربما على العالم أن يتعلم معاني ودروس “الحوار الوطني” بحسب التجربة السورية، كما تعلم في السابق من تجربتنا في التعددية السياسية ممثلة بصيغة “الجبهة الوطنية التقدمية”، واستفاد من تجربتنا في التنمية والحداثة والبناء ممثلة بمسيرة “التطوير والتحديث”، وغيرها من الابتكارات العظيمة الملهِمة للبشرية.
ومع تعبير “الحوار الوطني”، بدأت تتوالد تشكيلة جديدة من المصطلحات والشعارات المرتبطة به استناداً إلى التجربة السورية، على شاكلة “حوار تحت سقف الوطن”، و”حوار مع المعارضة الشريفة”، وتحليلات غراء تقوم في جوهرها على أن النظام “المسكين” يريد الحوار ويبذل جهداً كبيراً باحثاً عن المؤمنين به، لكنه لا يجد من يوازيه في إيمانه بالحوار وفي إخلاصه للمبادئ الديمقراطية.
ولا نحتاج إلا لجهد بسيط لنكتشف أن كل هذه التعبيرات والمصطلحات تؤكِّد حقيقة أن النظام لم يمتلك في أي لحظة خلال العامين الماضيين أياً من العنصرين الضروريين: الإرادة والقدرة، اللازمين للخروج من جلده المعهود ولإعادة المعاني إلى الكلمات، بل إن كل الخطاب ليس له من معنى سوى أن للبيت رباً واحداً اسمه السلطة القائمة، والباقي مجرد ضيوف أو وافدين. وهذا هو جوهر المشكلة في سورية، ومن هنا ينبغي أن يبدأ الحل.
المدن