موجة الكتاب السوريين الجدد… بداية ونهاية/ ياسين الحاج صالح
منذ أيام «ربيع دمشق» القصيرة في مطلع هذا القرن تزايد بصورة لافتة عدد الكتاب السوريين الذين تنشر مساهماتهم في صحف أساسا، ثم في مواقع إنترنت. وخلال السنوات الماضية أنجز كتاب سوريون جسما ضخما من مواد منشورة، مقالات رأي أساسا، لكن أيضا تحقيقات، ومقابلات، وتأملات فكرية، ونصوص تتداخل فيه المقالة بالقصة بالشهادة، وكذلك أبحاث ودراسات، وعدد قليل من الكتب.
اليوم، حيث يتقاطع هذا الحجم الهائل من العمل، المشتت والمتناثر، مع تفكك البلد وتناثره، هو مناسبة للنظر في هذا الشغل وخصائصه وخصائص منتجيه.
نشر الكتاب السوريون موادهم في صحف عربية، لبنانية وخليجية ومهاجرة، وبدرجة أقل في بلدان أخرى. الأمر مفهوم. فمعظم المعنيين معارضون لنظام بلادهم، لم تكن تتاح لهم فرص للنشر في منافذ النشر السورية القليلة، الطاردة للكتاب والمواهب، والقامعة للتعبير الحر، والمبنية على الولاء والمحسوبية. لكن العنصر الاقتصادي لا يقل تأثيرا عن العنصر السياسي. يعيش جيل ما بعد «ربيع مشق» من الكتاب السوريين مما ينشرون في الصحف، كليا أو جزئيا. غير قليل منهم متفرغون تماما، ينشرون عدة مواد كل شهر، وعبر السنين أنتج أقلهم عشرات النصوص، وكثيرون منهم مئات منها.
المقالة المؤلفة من ما بين 500 و1000 كلمة هي المنتج الأساسي للكتاب السوريين بحكم نوعية وسيط النشر الأبرز، الجريدة اليومية، الذي تحدد تفضيلهم له حاجاتهم المادية. يكتب المرأ مقالات، فيصبح كاتب مقالات، وبالتدريج تتشكل الأشياء من حوله بصورة تشغل صلاحيتها كموضوعات لكتابة المقالات مكانا مركزيا في تشكلها. هذا يحمل خطر ألا يستطيع المرء الخروج من وضع كاتب المقالة، فلا ينجز دراسات أوسع أو يؤلف كتبا.
لكن، من هم هؤلاء الكتاب السوريون؟ يمكن تمييزهم إلى مجموعتين فرعيتين أو ثلاثة. مجموعة أكبر سنا مكونة من سجناء سياسيين سابقين، يساريين حصرا، تحولوا إلى الكتاب كصيغة أساسية لاستمرارهم في العمل العام، مع مثابرة بعضهم على النشاط السياسي المباشر أيضا. كاتب هذه السطور واحد منهم، وغير قليل منهم كتاب ومترجمون في آن.
المجموعة الفرعية الثانية أصغر سنا، مكونة من شابات وشبان دون الأربعين، وبعضهم عشرينيون، بدؤوا حياتهم العامة ككتاب في الصحف، دون المرور غالبا بمرحلة من النشاط السياسي في أحزاب. هذه ظاهرة لافتة في الإطار السوري الذي كان الحزب السياسي هو الإطار شبه الحتمي لعمل المشتغل الشاب بالشأن العام.
قد يمكن القول إن الكتابة في الصحف ومواقع النت هي «حزبـ« جيل جديد من الكتاب والكاتبات السوريات. ولعل هذا يصدر عن تقدير صحيح بأن فرص الاتصال المباشر بجمهور واسع محدود، إن لم تكن معدومة فعلا، بفعل الشروط السياسية المعلومة. أما محاولة التأثير على الرأي فبابها أوسع. «ربيع مشق» كان محاولة لتوليد أشكال جديدة من العمل العام، يلتقي فيها السياسي بالثقافي، والجيل الأكبر بالجيل الشاب، ومعلوم أنها أجهضت قبل أن تكمل عاما. لكن تلك الأيام هي التجربة المكونة في تصوري لفئة الكتاب الجدد.
ويعود جذر مهم من جذور ظاهرة الكتاب الجدد في سورية إلى دخول البلد زمن الانترنت في مطلع القرن، وفرص النشر الشخصي الواسعة نسبيا التي تتيحها الشبكة، وكذلك فرص التدرب على الكتابة. والتواصل أيضا: كان الكاتب السوري «يأكل همّ» إرسال مواده إلى منابر النشر. البريد بطيء ومراقب وغير مضمون، والفاكس نادر ومراقب ومكلف، والإرسال مع معارف قلما يتيسر. النت قلص المسافات والزمن والكلفة.
وهناك مجموعة فرعية ثالثة، كتاب وكاتبات أكبر سنا، كانوا معروفين من قبل، لكنهم انخرطوا في هذه الموجة الجديدة من حيث الكتابة الكثيفة في الصحف ومواقع النت، والانكباب شبه الحصري على الموضوع السوري كما سنقول بعد قليل. هذا الجيل الأكبر انقسم إلى مشاركين في الموجة الجديدة، وإلى غير مشاركين، بعضهم معادين لها ولما تمثله.
وعموما، يبدو أنه يمتزج في أنساب ظاهرة الكتاب السوريين في السنوات المنقضية من هذا القرن ثلاث أشياء: ظروف سياسية جديدة مثّلها «ربيع دمشق» كتجربة مكونة، وسيط اتصال ونشر هو شبكة الانترنت، وحاجة إلى الدخل والاعتراف. المقالة ترد دخلا شبه منتظم لأفراد لا وظائف لهم، وقدر من الاعتراف.
السمة الجامعة للمجموعتين الفرعيتين الأوليين أنهم بلا تأهيل أكاديمي. الكاتب السوري في القرن الحادي والعشرين يعمل متفرغا في غير مجال دراسته الجامعية إن وجدت، أو يجمع بين عمله والكتابة. قد يكون تعبير المثقف العام (ببليك إنتلكتشوال) هو الوصف الأنسب للكتاب السوريين الجدد. فهم مثقفون منخرطون في الشأن العام، ومتدخلون في السياسة، وتعرض معظهم، بما في ذلك الجيل الأصغر، لتجارب أمنية (اعتقال وتعذيب، منع من السفر، مراقبة أمنية)، وهم يحاولون التأثير على المجتمع أو قطاعات منه بأدوات الرأي والفكرة.
أما من حيث المضمون، فإن ما يميز هؤلاء المثقفين السوريين هو أنهم… سوريون. موضوعهم الأساسي، إن لم يكن الحصري، هو سورية، وهم يُعرِّفون أنفسهم بأنهم سوريون. هذا جديد بين الكتاب السوريين إلى درجة تبيح القول إن سورية كانت، قبل هذا الجيل، «أقلية» هامشية في سورية. الاهتمام بهذه الأقلية فعل تحرري من حيث كونها أقلية مهمشة من جهة، ومن حيث أنه لا يمكن للكتابة السياسية عن سورية إلا أن تكون فعلا نقديا ومتمردا بحكم تحريم السياسة والتفكير السياسي في «سورية الأسد» من جهة أخرى.
وهذا الاعتبار السوري هو ما يسوغ نسبة كتاب من جيل أكبر، كانوا معروفين ومكرسين قبل «ربيع دمشق» إلى الموجة الجديدة (بعد أن كان موضوعهم «عربيا» أو «عالم-ثالثيا في أوقات سابقة). يضاف إلى ذلك أن وحدة إنتاجهم هي المقالة مثل الكتاب الجدد.
وبين جيلي الكتاب الأصغر عدد معقول من النساء، أكثرهن بدأن سيرهن الكتابية في هذا القرن، ويستندن بقدر كبير إلى التجربة الشخصية.
بينهم أيضا غير قليل من كتاب كرد، يكتبون بالعربية، ويتناولون الشأن الكردي السوري، لكن مواضيعهم لا تقتصر عليه.
عموما يمكن القول إن مواضيع الكاتب السوري الجديد هي الهوامش، سورية المهمشة ومشكلاتها الكثيرة، المجموعات الاجتماعية والثقافية الهامشية، المرأة، وكذلك السجن والتوقيف.
وكظاهرة عامة، هؤلاء الكتاب جميعا معارضون، وهذا بحكم الموضوع السوري لعملهم، وبحكم الانحياز الشخصي. وليس من باب هوى النفس أو التفضيل السياسي أن الموالين للنظام لا يندرجون ضمن هذه الظاهرة. ولاؤهم يحول دون أن يكتبوا بحرية وجدية في شؤون سياسية (النظام وبنيته وسياساته، أو حتى عن المعارضة، إذ ينبغي الاعترف بها من أجل معرفتها) واجتماعية (الطائفية، البرجوازية الجديدة، التقطيع الجديد للفضاء العمراني…) أو ثقافية (الدين، الاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية الجديدة في الثقافة السورية…).
على أن الإنتاج الكبير للكتاب السوريين في هذا القرن متناثر مشتت، وقلما يستفاد منه بسبب هذا التناثر. هناك تكدس كبير، وليس تراكم منظم. وينطبق على عملنا الكتابي ما ينطبق على الإنتاج عموما في بلدنا: غياب الشغل على الشغل، أو الشغل الثاني. ليس فقط أننا لا ننظم عملنا ونعيد النظر فيه وإنتاجه مجددا في صورة تتيحه لجمهور أكبر، ولكن كذلك بمعنى أنه لم يجر شغل على شغلنا يعرض قضاياه، ويوضح إشكالياته، ويبرز ملامحه العامة ومشتركاته، ويظهر ما فيه من جديد، ويميز تكراراته وانتحالاته، ويساعد القارئ على التوجه فيه والاستفادة منه. في الجملة، العمل النقدي والتقييمي غائب.
ومن أجل النقد يلزم عمل غربلة واصطفاء من جهة، وعمل تبويب وتنظيم من جهة ثانية. إن لم يحصل ذلك، ببساطة ستضيع أشياء كثيرة ولن ينتبه إليها أو يستفيد منها أحد.
من يمكن أن يقوم بعمل التبويب والتنظيم هم الكتاب السوريون أنفسهم. الملاحظات والمعلومات والأفكار القيمة التي تنتج في المقالات ينبغي أن يعاد إنتاجها في مواد أوسع، تنشر في دراسات وكتب. هذا يساعد على المراجعة والنقد، اللذين يساعدان بدروهما على التبويب والاصطفاء.
حتى بدون الثورة، ثم تَفجُّر البلد في الأعوام الثلاث ونصف الماضية، كانت ظاهرة الكتاب السوريين الجدد في سبيلها إلى استنفاد نفسها والدوران حول نفسها، كما يحصل لأي موجة ثقافية. ما يمكن أن يمنع الدوران حول النفس وتكرار الأشياء نفسها هو تنويع المنتج باتجاه أكثر تركيبا من دراسات وأبحاث من جهة، والتحول من اكتشاف سورية إلى النظر العمقي في تكوينها وتاريخها وهياكلها من جهة ثانية، والاستناد إلى الثورة كتجربة مكونة جديدة من جهة أخيرة.
أمامنا تحد كبير، وليس غير استجابة مثمرة له ما يمكن أن تعرِّف بجيلا جديدا من الكتاب السوريين، وبإشكالية جديدة.
كاتب سوري
القدس العربي