صفحات الرأي

عزمي بشارة في ‘الدين والعلمانية’: أنثروبولوجيا عربية جديدة

 

صقر أبو فخر

ربما لا يعثر الباحث العربي على ضالته فيما لو أراد الاطلاع على دراسات أنثروبولوجية ذات مستوى علمي رفيع، وسيجهد كثيراً قبل أن يتمكن من الحصول على النزر اليسير؛ فمثل هذه الدراسات تكاد تكون نادرة جداً، وقلما يقع القاريء على دراسة هنا، أو مقالة هناك في هذا الحقل العلمي الصعب والجذاب.

ولعل كتابات عصام الدين حفني ناصف، ولا سيما كتابه ‘المسيح في مفهوم معاصر’ (بيروت: دار الطليعة، 1979)، أو كتابه ‘موسى وفرعون بين الأسطورية والتاريخية’ (القاهرة: دار العالم الجديد،1975) و’الأسطورة والوعي’ (القاهرة: دار العالم الجديد، 1976)، علاوة على كتاب لويس عوض ‘أسطورة أوريست والملاحم العربية’ (القاهرة : دار الكتاب العربي، 1968) هي من المراجع النادرة وإن كانت تندرج في سياق الدراسات المقارنة أكثر من اندراجها في سياق الأنثروبولوجيا، مع أنها تستعير من الأنثروبولوجيا بعض جوانبها. أما كتاب عزمي بشارة الجديد ‘الدين والعلمانية في سياق تاريخي’ (بيروت الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2013)فيستحق الاحتفال حقاً؛ فهو من الكتب النادرة في حقله، ويمكن اعتباره كتابًا تأسيسياً في مجاله، فهو يجمع البحث العلمي والتاريخي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي والفلسفي معاً، ويصوغ من ذلك كله مائدة فكريّة قلَّ نظيرها في الدراسات العربية. وهذا الكتاب إنما هو الجزء الأول في مشروع متكامل (سيصدر تباعاً في ثلاثة أجزاء) لدراسة الدين والعلمانية، لا من حيث نقاط الافتراق بينهما، بل في سياق تاريخي لم يتطرق إليه المفكرون العرب من قبل إلا لماماً.

الدين غير التدين

هذا الكتاب هو شوط جديد في مسار الدراسات العربية الحديثة، وهو، كما يلوح لي، بلا أب أصلي؛ فلم تعرف الثقافة العربية في المئة سنة الأخيرة جيمس فريزر عربياً أو كلود ليفي شتراوس عربياً أو حتى لويس هنري مورغان عربياً. وهذا الكتاب، وإن كان من الافتئات عليه أن نعتبره دراسة انثروبولوجية فحسب لأنه ينتمي إلى حقل الدراسات الفكرية والفلسفية الشاملة، إلا أن له وشيجة قوية بعلم الإناسة.

يحتوي الكتاب دراسة معمقة عن المقدس والأسطورة والسحر والدين والأخلاق، ويركز على التجربة الدينية والتدين وخصوصية الايمان، ثم ينثني إلى نقد نقد الدين خصوصاً لدى هيغل وماركس وماكس فيبر وكانط، ويدرس التناقض، المزعوم بحسب المؤلف، بين الدين والحداثة، والذي أفاض فيبر في الكلام عليه. أما الدافع إلى كتابة هذا الجزء من ذلك المشروع الفكري الكبير فهو ان المؤلف توصل إلى نتيجة تقول إن إشكالية ‘الاسلام والديمقراطية’ هي إشكالية وهمية، وأنْ ليس ثمة صلة تستحق الاستغراق في اكتشافها. بين الاسلام والديمقراطية، بل إن العلاقة التي يجب أن ينصب البحث عليها هي علاقة أنماط التدين بالديمقراطية(ص7). وفي هذا الحقل المعرفي يرى عزمي بشارة أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الدين وأنماط التدين. فالدين لدى الكاتب هو تطور طبيعي ومعقد في تجربة المقدس، أي الانفعال بالجمال والرهبة من الأسرار والخوف من الطبيعة، لكن تجربة المقدس وحدها لا تميز التجربة الدينية، والدين بهذا المعنى ليس هو تجربة المقدس وكفى (ص 10)، بل هو، فوق ذلك كله، جماعة من البشر ذات إيمان مشترك ومؤسسة دينية وعبادة وشعائر وطقوس…الخ. ولمعالجة الفارق الجوهري بين الدين وأنماط التدين تصدى المؤلف لاكتشاف المشترك والمفترق بين الدين والأسطورة، وبين الدين والسحر، وبين الدين والأخلاق وغير ذلك من الموضوعات الخطيرة والحيوية.

ما هو الدين؟

يرفض عزمي بشارة وصف الدين بأنه ‘وعي زائف’، وهو يعتقد أن هذا الوصف الذي راج كثيراً لدى الماركسيين العرب ولدى أصحاب الفهم العلموي الساذج، يحجب رؤية الظاهرة الدينية في غناها وأثرها (ص66). فالدين، بحسب دوركهايم ‘يمنح الناس أجوبة عن حاجاتهم إلى المثالية، أو يهدئ نفوسهم القلقة المتطلعة إلى اللانهائي’ (ص248). وأبعد من ذلك، فإن الدين عنصر اجتماعي له شأن في التحولات التي تؤدي إلى الدمج الاجتماعي Integrative و إلى بلورة الجماعات البشرية وتماسكها. والدين ليس مؤثراً في المجتمعات والجماعات لأنه نظرية فيزيائية أو نظرية فلسفية، بل لأنه مرجعية وسلطة إيمانية ومنظومة من التعويضات الروحية والشعائر (ص300). يقول توماس هوبس إن معظم أسس الدين، إن لم يكن كله، قائم على حجج مغلوطة ومغالطات منطقية، وهو مبني على أربعة عوامل جوهرية: الاعتماد على الروح؛ الجهل بأسباب الظواهر؛ عبادة ما يخشاه الانسان؛ الخلط بين المصادفة والنبوءة (ص281). أما ماركس فيرى أن الانسان هو الذي يصنع الدين وليس الدين هو ما يصنع الانسان. غير أن عزمي بشارة لا يميل إلى مثل هذه النتائج بل يعتقد، مثل أرنست بلوخ، ان الله هو المثال الانساني الذي لم يتحقق. وبدلاً من أن يؤدي عدم التحقق هذا إلى الاغتراب والاستلاب بحسب ماركس، فإنه يؤدي، بحسب بلوخ، إلى الأمل، والأمل هو جوهر الدين، بل هو ‘شكل آخر للأمل’ كما يقول ألكسيس دو توكفيل (ص357). وليس بعيداً عن هذه الخلاصة ما قاله كارل ماركس نفسه في الدين: ‘الدين هو النظرية العامة لهذا العالم: خلاصته الموسوعية ومنطقه في صيغته الشعبية (…). إنه التحقق الخيالي لكينونة الانسان غير المتحققة. إن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو، من جهة أخرى، احتجاج عليه. الدين زفرة الانسان المقموع، قلب عالم لا قلب له، وهو روح لشروط اجتماعية لا روح فيها. إنه أفيون الشعب ‘(أنظر: نقد فلسفة الحق عند هيغل).

قصارى القول في هذا الميدان إن اليقين الديني هو سيرورة فكرية متشعبة الجوانب يتم الوصول إليه أما بالتسليم (الايمان) أو بالتجربة الذاتية (العرفان). غير أن الإيمان الديني اليوم، كما لدى الجماعات الاسلامية المسيسة، ناجم عن الخضوع لسلطة المنظومات الفكرية والاجتماعية والتربوية الناشبة أظفارها في بنية المجتمع والثقافة، وهي سلطة إقصائية وتكفيرية أحياناً، ومعادية لروح التقدم والنهضة في معظم الأحايين. أي ان الايمان، في نهاية المطاف، هو اليقين الذي من المحال إثباته أو البرهان عليه بالادراك والعقل أو بالعلم.

الفن والسحر والعلم

توصل الكاتب، في جملة استنتاجاته، إلى أن ثمة أصلاً واحداً للانفعال في نفس الانسان، ومن هذا الأصل الواحد يُشتق الانفعال الجمالي والانفعال الأخلاقي والانفعال الديني (ص23)، لهذا ليس مستغرباً أن نجد في كثير من الديانات فنون الرسم والتمثيل والنحت والموسيقى، فهذه الفنون تعبر عن العلاقة الانسانية بالسحر الكامن في الأشياء (ص25)، كما أن الرسم والنحت ظهرا، في البداية، لمحاكاة عالم الأرواح من خلال التخيل أولاً، ثم رَسْمُ هذه الخيالات، أي تحويل غير المرئي إلى مرئي. ونستعيد هنا قول كسينوفانس: ‘لو كان للخيل دين لرسمت آلهة لها حوافر’. أما المؤلف فيقول: إن ما يسميه النبي وحياً، يسميه الشاعر إلهاماً ويسميه الفيلسوف حدساً. وكلها مظاهر للتفاعل الكلي مع العالم (ص76).

يقول عزمي بشارة إن السحر والعلم يقومان بالوظيفة نفسها(ص107)، فلا فارق بين غاية السحر وغاية العلم، فكلاهما يريد إخضاع المقدس لإرادته: السحر يريد التأثير في الأرواح لتنفيذ مشيئته، والعلم يريد التأثير في الطبيعة لمصلحته، بينما الدين يتضمن الخضوع للمقدس وعبادته. ويتضمن السحر أيضاً افتراض المقدرة على التأثير في المقدس (أي الله)، ما يشبه امتلاك العلم القوة على التأثير فيما هو غامض (أي الطبيعة).

مرجع للمستقبل

من الممكن كتابة كتاب كامل عن هذا الكتاب الاستثنائي، فهو من الكتب الممتعة والمهمة والنادرة التي لا يمكن ايجازها قط. الايجاز الممكن في هذه الحال، هو قراءة الكتاب حرفًا حرفاً. ولا ريب في أن هذا الكتاب يُعد مصدراً لا يمكن إنكار أهميته أو الاستغناء عنه في خضم السجالات التي أطلقتها المتغيرات العربية الجديدة التي فتحت الأبواب على مصاريعها لمناقشة الاسلام السياسي والسلطة والعلمانية والديمقراطية والحرية والعدالة والتنمية والمستقبل أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى