مُدننا التي كمقبرة أربيل/ رستم محمود
توسعت «مقبرة كسنزان» الكُبرى التي تقعُ شرق مدينة أربيل عشرات المرات في السنوات الأخيرة. ليس فقط لأن المدينة نفسها توسعت بالدرجة نفسها، بل لأن أربيل تحولت إلى مدينة جذب استثنائية لعشرات موجات النزوح، الاقتصادية والسياسية والعسكرية. الغريب أن المقبرة باتت مُقسمة بين العديد من الجماعات الأهلية النازحة، فقبور الأكراد السوريين مميزة وبعيدة من نظيراتها التي لأكراد تُركيا، وتلك التي للعرب السُنة غير التي للتُركمان السُنة، وهكذا. حتى أنه أثناء أيام الخميس والأعياد، يُمكن أن تُلاحظ كل الأطياف الاجتماعية والحساسيات الأهلية التي في المدينة في تلك المقبرة، وإن مفصولة بعضها عن بعض تماماً، لا تتشارك ولا تتفاعل في أي شيء، وعلى أي مستوى، حتى في أكثر اللحظات والأماكن وجدانية: في المقبرة.
لكن الحالة تصل الى أعلى دراجاتها تراجيدية، حين يكون ذلك الفصل بين قبور ضحايا تفجير إرهابي واحد.
فكحالة الفصل الميكانيكية التي في المقبرة، تعيش المدينة كُلها. صحيح أن الجميع يعيشون بأمان وسلام اجتماعي، لكن التفاعل والتواصل هما في الحد الأدنى بينهم، ببساطة لأنه لا حياة مدنية وثقافية وسياسية في المدينة. وتصل بعض التحليلات الأكثر تشاؤماً الى القول إنه ليس حتى من حياة اقتصادية، إذ ثمة فقط الأموال المتأتية من عائدات الثروة الباطنية، تتم إعادة توزيعها بطريقة أو أخرى، وهو شيء يمكن تسميته «الحياة المالية» ليس إلا، إذ لا إنتاج ولا تصنيع ولا بيروقراطية وظيفة… الخ.
بتكبير الصورة قليلاً، تُرى جميع مُدن منطقتنا كأنها صورة مُطابقة لما في أربيل تماماً، تجمعات من السُكان الأهليين تعيش أعلى درجات المُتاركة والانفصام في ما بينها، وتكون مُهيأة في شكلٍ أو آخر لخوض حروب طويلة. مثلاً، مدينة القامشلي التي ينحدر منها كاتب السطور، تأسست في العشرينات، وشكلت نقطة جذب استثنائية لكل الحساسيات المجتمعية العثمانية. انحدر إليها يهود مدينة نصيبين التاريخية، لاتصالها المديد بالبادية، حيث كانت تجارتهم التقليدية بالفضة والصوف، ولقربها من سكة قطار الشرق السريع، الذي يربط الموصل وحلب. ولوجود الحامية الفرنسية فيها آنذاك، استقر فيها أرمن كثر، كانوا قد هربوا الى البادية، جنوب المدينة، بعيد الفرمانات الفظيعة التي صدرت في حقهم، قبل عقد من ذلك التاريخ. لسبب قريب من ذلك، كان سريان جبال طوروس، أيضاً، قد وفدوا إليها، ناقلين معهم علوم أمصارهم الكثيرة. وكان عرب البادية وأكراد السهوب، المحيطة بالمدينة، قد تدفقوا إليها تبعاً، عاماً بعد آخر، سعياّ الى تعليم أبنائهم، وتجريب حظهم بغير الزراعة والرعي، التي أكلت من أكفهم وأكتافهم.
مع بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، كانت القامشلي مدينة ملونة، تمتد على تنوع لغوي وإثني وديني واجتماعي وسياسي وأيديولوجي وعمراني، لكن ذلك التنوع الأهلي لم يخلق إلا نمطاً بائساً من التجاور والتعايش المفروض، ولم ينمُ على ذلك أي شيء سياسي ومدني وثقافي واقتصادي لقُرابة قرن كامل. فكانت موجات الخشية والمُتاركة الأساس الصحيح الوحيد الذي يُمكن عبره وعي أحوال المدينة وتحولاتها طوال حياتها.
مدينة الاسكندرية مثلاً، كانت منذ القدم تجمع بين اليونان والبدو والأقباط والأرمن والشوام والأتراك والألبان والليبيين والسودانيين… الخ. وبين سيرتي مدينة القامشلي الأكثر حداثة والاسكندرية الأكثر تقليدية، تراوحت كل سير المدن العربية في القرن العشرين، من الولادة حتى الشيخوخة. فلتحول عميق في عالم السياسة جعل مدننا تصبح للمرة الأولى حواضر لـ «الدولة الحديثة»، وتحول آخر في الاقتصاد، هو الانتقال التاريخي الأولي من حصرية الاقتصاد الزراعي الى الأشكال الحديثة الأخرى من الاقتصاد، ولتحول ثقافي حداثوي أعمق، في التعليم والصحة والعمران والاتصالات… الخ. لتلك التحولات كلها، كانت الحساسيات الريفية المختلفة قد انحدرت الى المدن، وصنعت تلك العقود من التكامل والتعايش. كل تلك المدن، من القامشلي الى الاسكندرية، مروراً بمئات الأمثلة الأخرى، وباختلاف حداثة تكوينها وحجمها ودورها، بدأ انحدار «انحطاط» حيويتها وحساسيتها الخاصة، مع بداية الستينات، فسيطرت النزعة «القومية العربية»، ثم تحولت السيطرة القومية الى هيمنة رمزية تامة، في مؤسسات الدولة وحقول التربية والقضاء والإعلام والفضاء العام. وفي السبعينات، قامت الأجهزة الأمنية مقام الهيمنة القومية. وفي الثمانينات والتسعينات، بقيت سيطرة الأجهزة الأمنية، بينما استحوذت التيارات الدينية على مقام الهيمنة. وفي العقد الأول من القرن الجديد، ترافق العنف الديني مع الوحشية الاقتصادية الاحتكارية لنخب الحكم، وهو ما كانت العشوائيات العربية أبلغ تعبيراته.
المهم أنه، لنصف قرن كامل، جرت سيرة المدن العربية بالتباين التام لسيرة تكونها في النصف الأول من القرن. كُبتت ألوان الحساسيات كلها، وتحولت نحو فضاء من التكاذب المتبادل، ومن ثم إلى شكل مشوه للباطنية الطائفية والإثنية والمناطقية، بين أطراف المدينة، حيث «التخاوف» المتبادل و»مخيلات الرهبة» واقتصاد الجماعات ومؤسسات الهويات، التي تمتد من التعليم الى الصحة، ومن الإعلام الى الأمن الى دور العبادة، بحيث كان جوهرها يكمن في تمركز الجماعات المختلفة في أحياء وأطراف غير متخالطة من المدن.
ربما، ربما كانت المدن ما يمكن اعتباره معياراً وامتحاناً لـ «الربيع العربي»، فهي التي تأسست في شكلها وشرطها الأول، كانعكاس ونتيجة أولى لانخراط دولنا الحديثة في العصر ولغته، مع بداية القرن المنصرم، وهي نفسها ما نكص وهرم وامتلأ بالتلوث والعشوائيات، مع تحولات الاستبداد في وقت لاحق. شرط الربيع هو حفاظه على حساسيات المدن العربية، حتى أكثرها ضعفاً، وبلغة وشروط تعاقدية أعمق وأحدث، تكون الديموقراطية فيه نظاماً لا عملية، وتكون الدولة حامية لا غنيمة.
* كاتب سوري
الحياة