ناجون إفتراضيون ـ الذاكرة كحاسّة سادسة/ أمير الحسين
مرة أخرى، يضجّ رأسي بـ «خبطة قدمكن.. الهدّارة». قبل أن يتسلل النور إلى عينيّ، صباحاً، وقبل أن يتنسّم دمي رائحةَ أزهار الشجر – شجرِ الآخرين. الخبطةُ/ الخطيئةُ منذ التكوين، والتي سبقت خبطة التفاحة – تفاحة الخطيئة. أجل، مرة أخرى يصدح صوت فيروز، الصوت الذي طالما كان جوّاباً في خلايا ذاكرة السوري وآفاقها؛ إذ ما برحتْ تبثّه الإذاعات المدرسية، وإذاعة الجيش السوري، فضلاً عن الراديو والقنوات التلفزيونية في الإعلام الرسمي السوري، ومروراً بالنغمات الموبايلية، هنا وهناك. يحدث مراراً أن نسمعه مقروناً بقدوم الغاز (المادة الاستهلاكية).. كذلك درجت العادة هنا، في اللاذقية، أن يجوب الشوارع موزّعو جرار الغاز الجوّالون، منذ اثنتين من السنوات ما بعد العجاف، فيما مكبّرات الصوت الموضوعة على السيارات (السوزوكي) تصدح بشتّى الأغاني الفيروزية؛ ولكل موزّع من أولئك مزاجه في اختيار ما تطرب له نفسه من الأغاني تلك، وبما يتواءمُ والمزاجَ العام لقاطني الحيّ؛ فالأحياء السكنية كذلك لها أمزجتها وحكايتها وفسيفساؤها الاجتماعي. هكذا، ويغدو في الإمكان معرفة الموزّع من الأغنية المبثوثة؛ كـَ «أسامينا» – الاسمُ الذي بات يتصيّر، كلَّ لحظة، إلى هباء منثور إثر انهيار المسمّى – وليس انتهاءً بـ«خبطة قدمكن». وكلما سمعتُ ذاك الصوت السماويّ ارتسمتْ في مخيلتي جرّةُ الغاز الزرقاء؛ وكاستجابة شرطية «بافلوفيّة»؛ كأنما هو سيلان لعاب الذاكرة – الذاكرة الآدمية المستكلبة. على أنّ المدينة، هذي، في خير حال قياساً إلى الأحوال المأزومة، وعلى كل الصُّعُد، في غالبية سوريا – الجسدِ الذي تشتكي كلُّ أعضائه ودونما (أُمّ) تتداعى له بالسهر والحمّى.
العمليةُ المموسَقةُ، تلك، تبدو وكأنها اشتغال غير بريء على الذاكرة البريئة؛ وكإحدى الأدوات السلطوية، عادةً، في تطويع الشيء على هيئة ما يراد له. ليس لكائن منا، بالتأكيد، أن يحصّن حواسّه مهما بلغت به الحيطة والحذر والاجتهاد. يوماً تلو آخر، تؤول إلى الخراب أحوال الأطفال السوريين عموماً – الناجين الافتراضيين، منذ ثلاث سنوات، سواء ممّن لا يزالون مسيَّجين بالموت ومشتقاته، في الداخل السوري الموبوء، أو ممّن قُدّرَ لهم الهربُ مع ذويهم؛ نازحين إلى دول الجوار – الأردن، العراق، تركيا. نزوح من الموت الفسيولوجي، وبكل أوجهه، إلى الموت السيكولوجي؛ من اكتئاب/ عصاب/ فصام/ فوبيا..إلخ. كل ذلك في ظل شلل شبه كامل للقوانين والأعراف الدولية، متمثلةً بالمنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، حول مصائر الملايين من اللاجئين السوريين؛ نساءً ورجالاً وأطفالاً، وكان أن تمّ رصد وتوثيق الكثير من الحالات اللاإنسانية، في المخيمات التي تضم أولئك السوريين – الناجين الافتراضيين، في مسيرة الأحلام الافتراضية. ومحظوظٌ هو منَ يفوز بخيمة، أصلاً، في ظل كل هذا النزوح المهول. هي النار تأتي على كل شيء – حرب عمياء؛ وكدأب الحروب عبر التاريخ؛ منذ فتيلة الأخوين – قابيل وهابيل، تلك الحرب التي ذهب ضحيتها ربع العالم حينها، وحتى اللحظة هذي، وحيث تنهار جُلُّ المنظومات الفكرية والأخلاقية في لحظة ما – اللحظة الوجودية الحاسمة، هي اللحظة ذاتها التي انطلقت إثرها الصرخة النيتشوية المدوّية «مات الإله»؛ في إشارة جليّة منه – بالتأكيد – إلى موت الضمير الإنساني.
تدخل الفاجعة السورية عامها الرابع، وما تزال الدول الأقطاب – أوتادُ السماء! تتجاذب وتتنافر حيال سوريا – عقدةِ الكرة الأرضية!. قلقٌ ما بعده قلقٌ، بخصوص الأزمة السورية – إحدى أعظم الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، هذا القلقُ الذي لا يتطور إلا إلى نفسه! في معادلة الوجود السوري، أو في معادلات التوازن الوجودي العالمي، وما يزال الدوران قائماً حول «السلام الممغنط» – السلام الذي يذكّرني بالجُبّ ويوسفه؛ أيّ سيّارة سيمرّون بكل مَن في الغَيابة، وأيّ حبال ستقوى على انتشال شعب برمّته.
تدخل الأسطورة السورية عامها الرابع، بذاكرة ملؤها الموتُ بكل صنوفه؛ من قتل/ اغتصاب/ تشريد/ حرمان..إلخ. وليس للسوريين – الناجين الافتراضيين، سوى أن يواصلوا حيواتهم الافتراضية بذاكرة مشوهة، مأزومة، وغير افتراضية بالضرورة. «بكرى بتكبر وبتنسى» يا للكلام الشائع هذا، عبارة سخيفة بامتياز؛ وكحال الكثير من الأقوال المأثورة – أسيرةِ الكتب وحسب. محظوظٌ مَن تتسنى له، غداً، محاولة النسيان أصلاً؛ إذ يعني ذلك أن ثمة حياة في انتظاره. لكن، أيّ زمن هذا الذي هو كفيل بالنسيان، أيّ زمن سيطوي ما في ذاكرة الطفل من مشاهد يندى لها الجبينُ. ماذا سيرسم الطفل الموهوب، غداً، ذاك الناجي الافتراضيُّ؟ دبابةً بجوار حديقة أم طائراً هائلاً يخيّم بظلاله على اللوحة كلّها؟ وعمّا سيكتب الطفل الموهوب، غداً، ذاك الناجي الافتراضي؟ عن أُمّ اغتُصبت أمام عينيه أم عن أب نحرَهُ أحدهم أمام عينيه؟. على أنني لا أرمي إلى الأطفال – كمحمولٍ سياقيّ، إلا بوصفهم بذوراً؛ بوسعها أن تحمل الأرض، كل الأرض، على الانبعاث، وبوصفهم الحوامل الرئيسة لمفاهيم البنى الفوقية، وبخاصة في البلد – سوريا، والذي يعاني، أصلاً، من عجز في بناه الفوقية، والتي هي – وكما يقول بذلك ماركس – الأساس الحقيقي في إرساء قواعد متينة للبنى التحتية السليمة، في المجتمعات كلّها.
كيف للذاكرة المطعونة، كحاسة سادسة أو كبنية شخصانية، أن تحلّق بصاحبها – الناجي الافتراضي، إلى حيث يشاء الحلم، مثلاً؟. كل ذاكرة هي زورق مليء بالخروق، في مهب عاصفة غير افتراضية،- تلك الذاكرةُ التي طالما يجهدُ المرءُ في حراستها؛ تلك الذاكرة التي يحدث أن نستعين بها، أحياناً، على حاضر أليم ومتعسف، منقّبين في زواياها عن حدث ما جميل وسارّ؛ للحيلولة دون الاستسلام والاستكانة إلى الحاضر إذ يتصيّر أشباحاً،- تلك الذاكرة التي هي في مثابة القنطرة إلى الضفة الأخرى/ المستقبل.