نجها:المقبرة التي تتسع بمساحة وطن/ مجد الخطيب
على بوابة دمشق الجنوبية، عند بداية الطريق إلى السويداء، تقطع الأوتوستراد ثلاث سيارات تابعة لـ”الشرطة العسكرية”. يتوقف السير. يسري جو من القلق بين ركاب الحافلة، قبل أن يقول السائق: “لا تقلقوا… مراسم دفن في مقبرة نجها.. بعد قليل نمشي”.
يتنفس ركاب الحافلة الصعداء بعدما أدركوا أنهم لن يكونوا هدفاً لعملية خطف أو اعتقال مفترضة، وتتسمر عيونهم في زجاج النافذة لتراقب دخول ثلاث حافلات تابعة لقوات النظام إلى المقبرة.
الركاب افترضوا أن هذه التوابيت تحمل أشلاءً وجثثاً مجهولة الهوية تابعة لقوات النظام، نتيجة المعارك. تدخل الحافلات الثلاث برفقة عدد من عناصر “الشرطة العسكرية”، ومن بعدها تُسمع أصوات طلقات نارية، تكريماً لأرواح القتلى، على الطريقة العسكرية.
“المدن”، حاولت طرق الأبواب الموصدة، لتقصي ما يجري داخل نجها، التي باتت تعرف باسم “بلدة المقبرة”، والتي تبعد عن دمشق 13 كيلومتراً، بينما يفصلها عن بلدة السيدة زينب، مركز المليشيات العراقية، حوالى 6 كيلومترات.
وتعتبر المقبرة أهم صرح في نجها، إذ تبدو مكسوة بالرخام، تحيط بها أشجار السرو من جميع جوانبها. ولكن، عند الدخول إلى البلدة، التي زرع “أمن الدولة” حاجزاً على مدخلها، ترى عكس ذلك، فالبلدة لا زالت تعيش في ستينيات القرن الماضي.
بحسب السجلات العقارية، تتبع نجها إدارياً لناحية ببيلا الواقعة في ريف دمشق الجنوبي. وبحسب السجلات، لم يكن هناك أي وجود إداري للبلدة، قبل العام 1960، حين كان يقطن المنطقة عدد من عشائر البدو الرحل بشكل مؤقت، ممن يعملون في رعي الماشية على أطراف دمشق.
بعد انقلاب “البعث” في العام 1963، واستصدار قانون “الإصلاح الزراعي”، استقر عدد من عشائر البدو في المنطقة، بشكل دائم، نظراً لتوفر المياه بسبب حفر عدد من الآبار. وبقيت المنطقة مهمّشة من دون تواجد للأبنية السكنية.
تم إنشاء “مقبرة الشهداء” في نجها، بعد حرب عام 1973، والتي أصبحت نواة لإنشاء البلدة. وحظيت المقبرة بزيارة سنوية من رموز النظام تكريماً للشهداء. وبالقرب من نجها، بدأت مع الوقت تنمو مرافق رسمية، أهمها “قصر المؤتمرات”، المؤسس عام 1996، حيث كان يستقبل فيه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ضيوفه. ومساكن الضباط أصبحت مشرفة على القصر.
منذ أواخر التسعينيات، أصبحت بلدة نجها القفل الأمني الذي يحمي دمشق من جهة الجنوب. الأمر تغيّر مؤخراً مع تدخل “حزب الله” وإيران في سوريا، إذ أصبحت السيدة زينب هي الأكثر تحصيناً.
أحد المهندسين الذين أشرفوا على بناء “مساكن الضباط” في نجها، قال لـ”المدن”، إن النظام كان بحاجة إلى أبنية سكنية لضباطه، لتصبح مع الوقت عيناً أمنية تضبط القطاع الجنوبي لريف دمشق. بعد ذلك، استُحدِثت مساكن جديدة، ومدّ إليها الصرف الصحي، وتم إنشاء المدارس حول المقبرة. المقبرة فعلاً كانت نواة أسست البلدة الجديدة من حولها. كل ذلك، مع احتفاظ القسم البدوي للبلدة، باستقلاليته.
مصادر محلية في البلدة، أكدت لـ”المدن”، أن نجها تقع بشكل كامل تحت سيطرة فرع “أمن الدولة”، المشرف على جميع التفاصيل الإدارية فيها؛ من تعيين المخاتير وأمين شعبة “حزب البعث” ومدير المدرسة. وفي العام 1973 تم إنشاء “مدرسة أمن الدولة” (يرأسها حالياً العميد ثائر العمر، من بلدة الفوعة في ريف إدلب)، ليتم إحضار الضباط وصف الضباط، وإعطائهم شققاً سكنية فيها. وبطبيعة الحال، فقد كانت النسبة الكبرى من السكان الجدد من الطائفة العلوية، ليتم تأمين البوابة الجنوبية لدمشق.
وتعتبر “مدرسة أمن الدولة”، هي السلطة الأولى في المنطقة. ويمنع “الفرع 295” عناصره من الاحتكاك بالسكان المدنيين، إلا في ما يتعلق بالتعاملات اليومية، كشراء الأغذية أو الملابس. وينظر سكان البلدة إلى عناصر الفرع، بريبة وخوف كبيرين. فما زال السكان يتذكرون تعيين رئيس بلدية في نجها على علاقة مع “المخابرات الجوية”عام 2003. حينها، رفضت “مدرسة أمن الدولة” الأمر، وتم تغيير رئيس البلدية بأمر من رئيس فرع “أمن الدولة”.
المقبرة المعروفة باسم “مقبرة الشهداء” في نجها، تفتح أبوابها يومياً، منذ ست سنوات، لاستقبال جُثث مقاتلي النظام. لكن شائعات تسري بأن المدفونين فيها ليسوا فقط قتلى قوات النظام، بل أيضاً القتلى تحت التعذيب من المعتقلين في سجون النظام. وورد اسم نجها في عدد من تقارير المنظمات الإنسانية، على أنها مكان يتخلص فيه النظام من جثث المعتقلين لديه.
“المدن” التقت أبو حسين، أحد حراس “مقبرة الشهداء”، فقال إنه يعمل في المقبرة منذ 25 عاماً، ويعرفها أكثر مما يعرف زوايا بيته، فهي تضم 35 ألف قبر، ممتدة على ثلاثة عشرة قسماً يعرف كل منهم باسم “جزيرة”.
وبحسب أبو حسين، فإن “مقبرة الشهداء” في نجها تعود تبعيتها ظاهرياً لكل من وزارة الدفاع ووزارة الأوقاف. الإداريون العاملون في المقبرة يتبعون لوزارة الأوقاف، من حيث التعيينات والرواتب، بينما تُشرِفُ وزارة الدفاع على السجلات الرسمية، من أسماء الموتى المدفونين وتوزيع أماكن دفنهم. إلا أن السلطة الرئيسية في المقبرة هي لـ”الأمن العسكري” الذي يرأسه حالياً اللواء محمد محلا.
أبو حسين، قال: “كما جرت العادة، وعند الساعة الواحدة والنصف ليلاً، تقف سيارات الزيل (شاحنات عسكرية) أمام المقبرة، لتخترق بأضوائها العتمة، لنقوم بفتح الباب وإدخال القافلة المؤلفة من سيارتي زيل أو ثلاث، مغطاة، إضافة إلى سيارة جيب يجلس فيها السائق والمساعد أبو جمال من الأمن العسكري، تابع للفرع 215”.
ويتم حفر قبور بشكل طولي متقاربة من بعضها، لتدفن فيها جثث من قضوا في معتقلات فروع الأجهزة الأمنية. ومهمة تسجيل أسماء المدفونين، تكون على عاتق “الفرع 215″، بالإضافة إلى إعطائهم أرقاماً، وتحديد أماكن دفنهم، ويحتفظ بتلك البيانات بسجلات خاصة. ويتم الدفن بشكل عشوائي، بحيث يتم خلط العسكريين القتلى من قوات النظام مع قتلى المعتقلين، وهذا ما أكد عليه “مركز توثيق الانتهاكات” في تقريره الصادر عام 2016.
يتابع أبو حسين كلامه: “الجثث التابعة لوزارة الدفاع تأتينا في معظمها بشكل أشلاء أو عليها أثار رصاص أو شظايا، أما جثث الفروع الأمنية فهي سليمة من حيث الشكل، لكنها إما تعاني من سقم شديد أو من تطبّل كبير في الجسم ناجم عن أحد الأمراض”. ويضيف: “لا يمكننا الابقاء على أي مصنفات أو ملفات تحوي أسماء الجثث المدفونة داخل المقبرة، بل نوقع فقط على وصول الاستلام، بينما تبقى السجلات في أرشيف وزارة الدفاع”.
المدن