نحن لكِ أيتها الحرية!/ أحمد ديبو
موتى منفيون، موتى مكبلون، موتى مجلودون، موتى مشنوقون، موتى مذبوحون…
لم يعد لدينا ما نقدمه إليك أيتها الحرية. أعطيناك دماءنا وعظامنا وجماجمنا. أطفالنا نجومك المفضلون، قدّمناهم قرابين سالفيك الأشيبين. قُتل مئات الألوف منهم وربما الملايين، وشُرِّدوا، داخل حدود الوطن وخارجه. تركوا منازلهم، وحقولهم، ومدارسهم، ولعبهم، وصاروا حفاة عراة، يبيعون ورودك الحمراء في شوارع التيه.
لقد شابت أشرعتهم قبل أن تُرفَع، والليل نام على أقدامهم ناسجاً في عيونهم البريئة أحلامه وحدائقه الزاهية، وأنتِ منهمكة في القيل والقال وغسل الموتى وانتظار المزيد. أمّا نحن، جنودك المخلصين، عقارب ساعتك التي لا تقدم ولا تؤخر، فقدّمنا منازلنا التي دُمِّرت، وشوارعنا التي تحفَّرت وتكدّست سواتر ترابية، وسيارات محروقة، وأشلاء منثورة. سُرقت مصانعنا ومحلاتنا. نُهِب قطننا وقمحنا وزيتوننا وغاباتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا. حتى آثارنا وتراثنا الإنساني، حمَّلوه على ظهور البغال وغابوا به تحت صياح العتمة. فإذا كان التاريخ نهراً من الدم، كما قال غيبون، فلقد صار لدينا أنهارٌ جارية. مع ذلك لم نلتفت إلى الوراء. بل إنّ تيار الحريّة الذي يجري في عروقنا ليل نهار، لا يزال يرقص على إيقاع الرصاص، والبراميل المتفجّرة، وصواريخ السكود، والصواريخ الإيرانية، ومدفعية الميدان، وراجمات الصواريخ، والقنابل الكيميائية. الواقع نار، نار كبرى أُشعلت لكي نطأطئ رؤوسنا وقلوبنا. لكن رؤوسنا ألغام، وقلوبنا قبضات مشدودة، وحناجر ملتهبة، وعيون تقدح شرراً، كرهاً بك أيّها الاستبداد، أيّها المنتصب تمثالاً في قلب الرمل، والمصنوع بأيدي العزلة. وحدها الريح بسوطها، سوط الريح الذي يجلدك على مرّ الثواني والدقائق، والذباب الغضوب يدندن عند أذنيك ليقول لك: إنّه لك هذا العالم المليء بالخراب والموت، وعمارات الدم، وأبراج النحيب، ولم يبق غير هذا التاج الميت: تاجك… وأنت تحرق سوريا.
أيتها الحريّة، يا صقراً ذهبياً لم يزل يجول في بساتيننا ومدننا المحروقة. وأنتِ يا سوريا، يا مرضعة الصقر، يا عِجلَةَ المأساة التي لم تزل تدور رحاياها ساحقةً الياسمين الأسود المنثور كحلاً في عيون شآمياتٍ أموياتٍ حاسرات الوجع، سبايا اللّوعة على دروب الحريّة وأزقتها العسليّة. ها هنَّ يسرن بخطوات مثقلاتِ الحيفِ، هائماتٍ على طفلاتهن المدمشقات المزعفرات المسربلات بالغضب، من قهر السلف وإجرام الخلف. ها هنّ واقفات مسنودات بأصابع التاريخ، يتبادلن المواعيد على عتبات الحريّة الآتية. كم أحسنّا الظنّ بالقناع، وبقوس العدالة الممدودة وهي تستبقينا على وترها المشدودة في انتظار الفرج.
إنّ صراط الحرية يتطلب، في ما يتطلب، ضرباً من التضحية. إنّه كرائحة القهوة في الصباح، يهيئ لنا خير بداية للسير. لكن كلّما تقدمنا بالسير، ازداد الصراط وعورة وقلقا، وهو أشقّ دائماً على الثوار الحقيقيين. لا أشقّ في السير، بقدر ما هو أخطر في الضلال عنه. إيجاد الصراط بعد الضلال أليمٌ أيضاً، كاسترجاع الحياة في عضو ميت. لا خوف في ذلك على الثوار الذين هم من وزن الحرية، لا من وزن “داعش” و”النصرة” و”الجبهة الإسلامية”. فالثوار العظماء أتباع الحريّة ليسوا أمواجاً بيضاء آنية الزوال، مهما علت فوق بحار التاريخ أمواج نكرانهم. إنّهم أمراء الحريّة، سادة لمغامرتهم. إنّهم يُقلعون في خضم الحوادث، فكراً، وأسلوباً.
إنّهم أمراء حياة في اكتشاف دائم لذواتهم ولمجتمعهم، لأنهم استطاعوا أن يضرموا نار الحب والمجد في تربته قبل حلول الأجل. بهم وبأمثالهم لم تزل الثورة وستبقى قويّة كالسنديانة. أمّا أنتم يا قادة الثورة المزعومين، يا من تحدثتم وتتحدثون باسمها، إنّ حالكم كحال ذلك الرسّام في الإسطورة الصينية التي تقول: إنّ رسّاما فتح باباً صغيراً في صورته الجدارية، ودخل منه، ثم أغلق الباب خلفه. ومنذ ذلك الوقت لا الباب وجد، ولا رأى الرسام أحد. نعم، أنتم ومعكم قوى إقليمية، ودولية، أعلنتم أنفسكم وأعلنوكم قادة للثورة، ومن ذلك الوقت دخلتم ذلك الباب العالي ثم أغلقتم الباب خلفكم.
لكي لا يكون الاتهام نظريا، لا بأس أن نسألكم، بعد أن نرجع ثلاث سنوات إلى الوراء لنرى الصورة بكاملها ثانيةً:
ماذا قدمتم لهذا الشعب المنكوب، قتلاً، وسلباً، واعتقالاً، وتهجيراً؟
هل أنقذتم إحدى القاصرات المهجّرات من براثن تجار اللحم الأبيض؟
هل عمل أحدكم على استئجار مدرسة لأطفال الثورة، حتى لا يكون جيل الثورة جيلاً أميّا؟ هل فكرتم في تأمين المدافئ والمحروقات إلى تلك الأسر السورية المرمية على قارعة الفاقة، وفتك الصقيع في شتاء لبنان القارس؟
ماذا صنعتم لتلك المرأة السورية التي انقطعت بها سبل العيش والمأوى لها ولأولادها الأربعة ولزوجها المسّن العاطل عن العمل؟ لجأت المسكينة إلى إحدى مؤسسات هيئة الأمم المتحدة المعنية بشؤون السوريين، لكنها وجدت أبوابها مغلقة أيضا، فما كان منها إلا أن أحرقت نفسها، احتجاجاً على أبواب الدنيا الموصدة في وجهها، ووجوه أطفالها وزوجها. إنها بحق “بو عزيزي” سوريا. مع ذلك لم تنج المسكينة من ألم سؤال المحسنين لمساعدتها على دفع فاتورة الاستشفاء. جميعنا شاهدها عندما ظهرت على شاشة التلفزيون بالضمادات من رأسها حتى أخمص قدميها طالبةً العون والغوث.
هل أغثتموها يا زعماء الثورة المفترضين؟ بالطبع لم تفعلوا ذلك، وأظن أنكم انتظرتم السفير السوري في لبنان أن يقوم بالمهمة عنكم. والله لو انتظرتم قرناً لن تجدوا هذا السفير يرفّ له جفن لأجل مأساتها، أو لأجل مآسي مليون ونيّف سوري مهجر في لبنان. يا ليتكم تعلمتم من الممثلة العالمية الفاتنة أنجلينا جولي وما قدمته لأطفال سوريا المشردين. لكن لا حياة لمن تنادي. هذه الأمثلة، هي غيض من فيض تقصيركم وقصوركم تجاه شعب الثورة. إنّ المليارات التي قدّمها العرب وأصدقاء سوريا كانت كفيلة تأمين أفضل الشروط الإنسانية لحفظ كرامة هذا الشعب السوري المظلوم. أنتم مسؤولون عن ذلك، لا أحد غيركم.
هذا على الصعيدين الاجتماعي والإنساني، أما على الصعيد السياسي فالأخطاء والخطايا كانت بالجملة، أستطيع ذكر بعضها.
أولاً: ألم تفشلوا في المحافظة على هوية الثورة التي ثارت على الاستبداد والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية والحرية والديموقراطية؟ من يستطيع أن يقول لي الآن، ما هي هوية الثورة السورية، مع وجود “داعش” و”النصرة” و”الجبهة الإسلامية” وعشرات الكتائب والألوية التي تحمل أسماء تقشعرّ لها أبدان السوريين والعالم؟
ثانيا: لماذا لم تحاولوا فتح قنوات اتصال مع أقلّيات سوريا التي عانت من النظام، وعانت من كونها أقلّية لم تكن حرّة في نمط العيش الذي تريده، بوجود أكثرية سنية ساحقة؟
كان يجب عليكم بلورة حوار معها يفضي إلى إنشاء “عقد اجتماعي” أساسه الطمأنة بين الثورة وبينهم. إنّ مثل هذا الأمر المهم لم يحصل. ولو أنّه حصل لاستطاعت الثورة سحب ورقة حماية الأقليات من يد النظام، الذي لم يتوان عن المتاجرة بها، وقد جعلتموه ينجح في ذلك.
لقد كانت أولوياتكم منصبّة على عقد المؤتمرات الخارجية، وعلى الإدلاء بالتصريحات الناريّة، والظهور المتواتر على شاشات التلفزة لأجل حفلات السباب والشتائم في حق نظام لا يأبه لها أصلاً. إن فشلكم هذا أوصلكم إلى حدّ أن عضو الائتلاف الوطني المعارض كمال اللبواني دعا إسرائيل إلى محاربة النظام وإسقاطه مقابل احتفاظها بالجولان. هل توجد خيانة لدماء السوريين وخدمة للنظام أكثر من ذلك؟ في الحقيقة لم تكونوا في معارضتكم أكثر من رُحَّل وسذَّج وحمقى. لقد فشلتم في كل شيء، ولم تنجحوا إلّا في الخلافات والاختلافات في ما بينكم. لقد اختلفتم على المناصب، والمكاسب، والتمثيل. واختلفتم على الاموال، والفنادق، والغرف، والبطانيات، وعلى “داعش”، و”النصرة”، و”الجبهة الإسلامية”، وبقية الألوية والكتائب، وضاع “الجيش الحر” في هذه الزحمة. كما أنكم اختلفتم على مواقفكم من إيران و”حزب الله” وروسيا والصين!
المبكي في خضم هذه التجاذبات والخلافات، أن قادة الثورة الحقيقيين التي كانت ستفرزهم الثورة، مثلها مثل كل ثورات الأرض، قد تم التآمر عليهم من الجميع، وفي مقدمهم النظام صاحب المصلحة الكبرى في أن لا يرى قادة يخرجون من روح الشعب حاملين همومه وشرفه وانتماءه ومشروعه الوطني.
لقد تمّت تصفية هؤلاء: ذبحاً، وسجناً، وإفقاراً، وتشويهاً لسمعتهم بسلسلة من الشائعات تبدأ بإلصاق صفة الشذوذ وصولاً إلى تهمة السرقة …إلخ، قبل أن تبلورهم التجارب قادةً لا تهزُّهم رياح ولا تزلزلهم أرض.
لقد تمت الجريمة بهدوء، وبتعتيم إعلامي كامل، وبتواطؤ العالم، وبتواطئكم أنتم مع النظام الفاجر.
أخيراً، لا بد من الوقوف على تلّة الأخطاء والخطايا التي ارتكبناها جميعاً في حق أُمّنا سوريا، وتذكّر ما قاله المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي حول تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. يرشدنا تفاؤل الإرادة، أنّ هذا النظام سيبقى على قلق، كأنّ الريح من تحته، على رأي المتنبي.
لذا، على المجتمع المدني السوري وقواه الديموقراطية بناء جبهة وهيكليات متماسكة ومنسجمة وصلبة لتحقيق المزيد من الحقوق الوطنية لهذا الشعب المظلوم. لقد تعلّمنا أنّ الخارج لن يحلّ لنا مشكلاتنا لأسباب شتى. علينا الاعتماد على أنفسنا، وعلى قوى هذا الشعب الحية، لبلورة فعل ثوري مصحوب بعمل دؤوب ومنفتح على الجميع من دون استثناء، لتكون بداية معقولة نحو حل الكثير من مشكلات هوية الثورة التي شابها ما شابها خلال السنوات المنصرمة. إنه المشروع الذي يعيد إلى المعارضة المدنية الديموقراطية المتنوِّرة بعضاً من وزنها الذي خسرته في السنتين المنصرمتين. هذه الاعتبارات مجتمعةً، ستمثل تحدياً فعلياً لبنية التفكير السياسي لدى السوريين على مختلف تياراتهم ومشاربهم وشرائحهم الاجتماعية. عليهم أن يحققوا أفضل انسجام مع مبادئ الثورة الأساسية كقاسم مشترك نتعاقد عليه مجدّداً، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حرمان هذا النظام من الاستئثار مجدّدا بالحكم المطلق له ولعائلته وغلمانه وجواريه. يجب أن يكون هذا هدفاً استراتيجياً لنا جميعاً، يستعر نضالنا من أجله.
كلنا رأى رأس النظام وهو يمشي على تلك السجادة الحمراء الطويلة المنسوجة من دماء الأطفال والشباب والنساء والشيوخ في سوريا. لقد فُتحَ له الباب العالي ليدلي بقسمه على وقع طبل المعبد، وحوافر البهائم التي تُقاد إلى المرعى في حلكة الليل، داعسةً رغبات النور في عيوننا. هذه الفرجة البائسة التي أرادها النظام، تدلّ أنّ طريقنا لم تزل طويلة نحو سوريا حرّة وديموقراطية. قال المسيح فادي البشريّة في أناجيله الأربعة: لا تخافوا أنا معكم.
ليس الآن وقت الخوف من النظام الذي أضحى لعبة مخلّعة، ولا وقت الخوف من “داعش” و”أخواته”. الوقت الآن هو للعمل المضني والذكي من أجل إنقاذ سوريانا من الاستبداد والظلام.
النهار