نحو تمثيل سياسي شعبي للثورة في سورية موازٍ للمعارضة التقليدية
لقد فاجأ الحراك الشعبي في سورية، حين فجر ثورته في الخامس عشر من آذار، كلاً من النظام والمعارضة على حد سواء. والمفاجأة الأكبر كانت استمرار هذه الثورة، بل واكتسابها زخماً أكبر يوماً بعد يوم. وتجاوَز الشارع السوري، بإمكاناته المتواضعة ومن خلال تماسكه الصلب ووعيه السياسي، النظام الحاكم. فلم تعد أدوات هذا النظام، المنتمية إلى القرن المنصرم تتناسب، في تخلفها وفي افتقادها إلى أي رؤية أو مشروع سياسي، مع حجم الأزمة التي وضع نفسه فيها. ووجدت المعارضة نفسها أمام تحدٍ لم تكن مهيأةٌ له. فبعد دهرٍ من القحط السياسي ومن الفقر والإفقار الممنهج للعمل السياسي في سورية، وجدت المعارضة نفسها أمام كل الإشكاليات المتراكمة التي أنتجها النظام دفعة واحدة. فعلى عاتقها توحيد صفوفها، وهي التي عانت تاريخا من الانقسام والتقسيم. وعليها تقديم رؤية سياسية متكاملة لسورية الغد وسورية البديل، وهي التي لم يُسمَح لها يوماً باتخاذ القرارات. ولا تزال المعارضة حبيسة إرثها القديم، فهي في مجملها لا تزال رهينة إيديولوجياتها التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الثورة. بالإضافة إلى أنها لازالت، في البعض منها، مكبلة بارتباطات إقليمية فرضتها ظروف المنفى والقمع والعوز والحاجة للدعم.
ومنذ البداية، أدرك الشارع السوري مدى حاجته لوجود معارضة موحدة قادرة على التمثيل السياسي لمطالب الشعب الثائر، وتقديم بديلٍ مقنعٍ – للداخل المتردد والخارج المتخوف – عن النظام القائم. وأدركت المعارضة كذالك مدى حاجتها للشارع الذي يمكن أن يخفف عنها قمع النظام من جهة، وأن يهبها شرعية وقوة سياسية تبني عليها ومن خلالها مشروعها ورؤيتها السياسية لسورية البديل، من جهة أخرى.
وكردٍ على إلحاح الشارع للوحدة وخلق البديل، بعدما رفع هذا الشارع شعار إسقاط النظام، أخذت المعارضة تعقد مؤتمراً تلو الآخر لتنشئ مجالس على عجل، أفضت وتفضي، للأسف، إلى الانقسام بدلاً من الوحدة المنشودة. وقد كشف هذا كله عن حالة من التخبط ومن العجز اللذين أثارا سخط الشارع الذي رأى في ذلك خدمة جليلة – وإن تكن غير مقصودة – للنظام الاستبدادي القائم وجرائمه المستمرة، وإطالةً من زمن المعاناة، إلى الحد الذي دفع بعض المتظاهرين، في جمعة خصصت لوحدة المعارضة، إلى توجيه رساله واضحة وشديدة للمعارضين من خلال رفع لافتات تقول: “خلافكم يقتلنا”.
ومنذ انطلاقة الثورة أدرك الشارع مدى أهمية تنظيم قواه. فقام بإنشاء تنسيقيات شعبية محلية أخذت على عاتقها تنظيم المظاهرات وإيصالها للإعلام وللرأي العالمي. وهذا التنظيم كان سر نجاحها واستمرارها. وآخر أشكال التنظيم كانت إنشاء مجلس قيادة للثورة منتخب ضم المحافظات السورية كلها ليمثل أول تجربة ديمقراطية في سورية منذ استيلاء البعث على الحكم ومصادرة الحياة السياسية. الشيء الذي لم تقم به بعد هذه التنظيمات الشبابية، هو بناء جبهة ثورية تضطلع بمهمة التأطير السياسي للثورة. أقصد بالجبهة الثورية انتخاب مجموعة من الشباب المثقف المنتمي إلى مجلس قيادة الثورة، والذين لا يملكون انتماء حزبيا، ليقوموا بمهمة سياسية محضة. هذه المهمة قائمة على تأطير وترجمة مطالب الشارع وتطلعاته ضمن رؤى سياسية تقدمها للمعارضة، لعلها تجد من خلالها أرضية مشتركة تتحد حولها.
هناك أسباب كثيرة تجعلنا ندعو وبإلحاح إلى إنشاء لجان سياسية ضمن مجلس قيادة الثورة. فلنشوء تنظيم سياسي داخل الحراك الشعبي نتائج جد مهمة منها:
61- يخلق تمثيلا سياسيا للحراك الشعبي قادرا على صياغة تطلعات الشعب ومطالبه.
2- يخلق أرضية شعبية للمعارضة. إذ أنَّ نقطة الضعف التي تؤخذ على المعارضة هي عدم قدرتها على الادعاء بأنها تمثل الشارع السوري. وهكذا يمكن للمجلس الشعبي في جانبه السياسي أن يمدَّ جسراً بين الشارع والمعارضة، بما يعزز من موقف المعارضة محلياً وإقليمياً أو عربياً ودولياً.
3- يسمح هذا المجلس بالاضطلاع بدور الرقابة الشعبية على عمل المعارضة في المرحلة الراهنة للثورة، وفي المرحلة الانتقالية التي ستليها. وتجنب هذه المراقبة المعارضة خطر الانحراف، تحت ضغط أطراف دولية أو أية أطراف أخرى، عن الخط الوطني للشعب السوري الثائر.
4- يساعد تأسيس هذا المجلس، ليس على التمثيل السياسي للثائرين فحسب، بل وعلى طمأنة المتخوفين من بديل النظام القائم وتشجيع الكثير من المترددين في الانخراط في الثورة أو في دعمها. هكذا يسمح ظهور هذا المجلس وتبنيه للشعارات الوطنية الجامعة بنشوء شعور من الثقة لدى جميع أطياف الشعب السوري بمستقبل سورية ما بعد النظام. ويساعد ذلك على طمأنة كل القلقين بأنّ سورية لن تذهب – بعد سقوط النظام – نحو المجهول. ويمكن لهذه الثقة أن تشجع الكثيرين على الانضمام إلى الثورة أو الكف عن إعاقتها على الأقل.
لا شك أنَّ هناك أسباباً كثيرة أخرى يمكن إضافتها، منها، على سبيل المثال، أن هذا التنظيم السياسي الشعبي في علاقته مع المعارضة كحاكم بديل عن النظام، سيعزز عملية الممارسة الديمقراطية والمشاركة الشعبية لطالما فقدتهما الحياة السياسية في سورية.
من هنا، ينبغي على مجلس قيادة الثورة، إذا أراد دعم المعارضة، تعجيلا بإسقاط النظام، أن يباشر فورا وبدون تردد، وبالتشاور مع أوسع شريحة ممكنة من الجماهير الثائرة، بخلق أو اختيار ممثلين عن كل محافظة ليقوموا بمهمة سياسية محضة، تتمثل في تحديد الإطار السياسي العام لأهداف الثورة ووسائل وآليات تحقيق هذه الأهداف. ويمكن لهذا الإطار السياسي أن يكون بوصلة لتعامل الثوار مع أي شخصيات أو تيارات أو أحزاب أو هيئات أو مجالس سياسية معارضة للنظام الاستبدادي القائم. هذه المهمة السياسية لن تكون بديلا عن المعارضة بقدر ما هي مكملا وصلة وصل مع الشارع المستغرق في نضاله اليومي مع النظام. فقدر الشباب السوري في الداخل هو انه على عاتقهم يقع، ليس فقط تنظيم الصفوف وتنسيق العمل الميداني ومواجهة قمع النظام، وإنما أيضاً مسؤولية توحيد المعارضة إن لم يكن خلقها.
د.أحمد اليوسف: كاتب ومعارض سوري مقيم في كندا