نزيه أبوعفش: المثقفون إذا واجَهْتَهم أوحِ لهم دائماً أن معك سلاحاً… سلاح السلاح أو سلاح الوقاحة والفجور والاحتقار
يخاف هذه المعارضة، النظام السوري ظلمه ومنعه من الكتابة لكنه لم يخفه
سامر محمد اسماعيل
لا يمكن في حضرة شاعر مثله إلا أن تصغي جيداً لكل نأمةٍ تصدر عنه، فهو لا يتكلم هنا عن ديوانه الأخير «الراعي الهمجي» الصادر أخيراً عن دار المدى بدمشق، بل يسجل ما كان قد كتبه على مدى أربعين عاماً وقاله منذ بداية الأزمة السورية على صفحات الفايس بوك؛ شارحاً موقفه إزاء ما يجري في بلاده، والذي تعرض لقاء ما كتبه عنه لوضعه على ما يسمى بـ« قائمة العار»..
السفير الثقافي التقت الشاعر السوري نزيه أبوعفش وكان الحوار الآتي:
÷ اليوم أين رأيك وما هو موقفك مما يحدث في سورية؟
} أنا قلت رأيي صريحاً وشبيهاَ بي إلى الدرجة القصوى، فماذا تسمي اليوميات التي كتبتها مثلاً تحت عنوان «المخلّصون القادمون» وكتبتُ فيها: «أنت الذي تزعم أنك قادم لنجدتي.. ليتك تعرف كم أنا خائف منك» لم أكن عندها أكتب شعراً ولا علم جمال، ليس من الضروري أن أترجم هذا الرأي كي يُرى أو يُسمع، وكتبت أيضاً ما معناه بأن العبيد الذين يستقوون بعدو على سيّدهم أو طاغيتهم لن يكونوا أحراراً، بل يتحولون من عبد مقتول إلى عبد قاتل، وهذا الرأي يمكنك أن تطبّقه على سورية أو على القذافي، فهذا الأخير حكم أكثر من أربعين عاماً، وكان العبيد بمن فيهم إعلاميون وسياسيون ومرتزقة ومواطنون عرب وأجانب يأخذون منه أطناناً من الأموال ثمن صمتهم على جرائمه، لكن عندما وجدوا أن هناك إمكانية للإطاحة به عبر الاستقواء بعدو آخر قرروا التخلي عنه، فهم نوع منحط من العبيد، والعبيد أنواع: هناك على مرّ التاريخ عبيد واجهوا أسيادهم كما حدث في الثورة البلشفية التي كانت من أعظم ثورات العالم، البلاشفة لم يستعينوا وقتها لا بالناتو ولا بغيره ولم يتلقوا سلاحاً من أحد، ثوار عام 1917 لا يمكن أن تسميهم عبيداً لأنهم حققوا ثورتهم بأيديهم، لكن ما حدث في ليبيا شيء آخر؛ فالعبيد هناك ظلوا أربعين عاماً تحت حكم الطاغية إلى أن قال لهم الغرب: الآن سوف نقاتل لكم ونحرركم. فماذا حدث؟ جاؤوا بطيرانهم وأسلحتهم وقاتلوا لهم فارتكبوا أبشع جريمة في القرن الواحد والعشرين، عندما يموت أكثر من شخص فهذه جريمة، إن كان المقتول من هذا الفريق أوذاك، هذا لا يعنيني.. ما يعنيني أن العبيد استقووا بعدوّهم على من اكتشفوا بعد أربعين عاماً أنه كان يظلمهم، والنتيجة كانت أن ليبيا لم تُحرر من الطغيان، لأن العبيد هم ذاتهم تحولوا من عبد مقتول إلى عبد قاتل، تماماً كما حدث مع القذافي هذه الخامة الإنسانية العجيبة، فحين شاهدتُه في الساعات الأخيرة شاهدتُ جريمة، ومن يرتكب مثل هذه الجريمة هو أكثر إجراماً من القذافي، لا أريد هنا أن أدخل في التفاصيل، وأقول أن هناك أوامرَ بقتله لأن هناك معلومات لا يريدون للعالم أن يعرفها عن علاقاته مع أوروبيين وسواهم، ما قاموا به عند قتل القذافي هو أنهم قاموا بتغطية جريمتهم بجريمة أشد بشاعةً، لقد غطوا عارهم وعار أوروبا وأميركا، كان من الممكن أن يحاكموه كأي مجرم، وأنا هنا أتسامح وأقول كان من الممكن محاكمته، لكن من تسمح له بأن يحكمك أربعين عاماً ليس من حقكَ أن تحاكمه، وأن تقتله بهذه الطريقة كي تقتل الجريمة. فهذه جريمة كونية كبرى، يجب أن نعرف لماذا قُتل القذافي؟ ونريد أن نعرف لماذا دُفعت ليبيا دفعاً من كل الأطراف كي تحدث فيها هذه الحرب الأهلية الكبيرة؟ أنا أعرف أن قضية ليبيا كان من الممكن حلها بغير هذا الأسلوب، لكن كان ممنوعاً أن تُحل بغير هذه الطريقة، في سوريا أيضاً هم لا يحذّرون من حرب أهلية، بل هم يدفعوننا دفعاً إلى حرب أهلية، ويخشون أن تتجاوز سورية المحنة دون أن تقع هذه الحرب الأهلية، سوريا.. من هي سوريا؟.. سوريا ليست العلم ولا النشيد الوطني ولا الجغرافيا أو التراب المقدس، ولا حتى الوطن، فهذه أشياء أقرف عند سماعي بها، فنحن اليوم لسنا ذاهبين إلى لينينغراد لنقيم الثورة البلشفية، نحن مدفوعون بالقوة وبانعدام الضمير العالمي إلى الحرب الأهلية، وهذه لا تعني إلا الموت العام، نحن لا نعنيهم، ولا يستطيعون الانتصار إلا إذا متنا، فإن لم ندخل في لعبة الموت حتى النهاية وإلى أمد طويل فماذا سيستفيدون؟ هيلاري كلينتون تقول: يُخشى من حرب أهلية في سوريا، لا نحن لسنا أغبياء، لقد بلغتُ من العمر خمسة وستين عاما وأعرف القراءة والكتابة، لا يا سيدة كلينتون أنتم لا تخشون من وقوع حرب أهلية؛ بل أنتم تصنّعونها. إن كل من يساهم في صناعة الحرب الأهلية في سوريا أو يوافق عليها، أو لا يحتج على وقوعها، أو ليس لديه الطاقة الأخلاقية على رفضها والعمل على إيقافها، هؤلاء جميعهم مجرمون، وإذا كنت أنتَ منهم فأنت مجرم، لا تغطي لي الجرائم بأقنعة الورد وبمفردات اللغة الجميلة الحلوة كالديمقراطية والحرية وغيرها، من قال لك أن الديمقراطية هي سورة المائدة؟ الديمقراطية في اللغة الإسلامية هي كالطهارة والنجاسة، عليكَ أن تختار أنت طهارة أم نجاسة؟ ديمقراطي أم غير ديمقراطي، لا يا صديقي الديمقراطية هي حيلة القتلة واللصوص لتسويق أعمالهم، دُلني في العالم أين توجد هذه التي يسمونها ديمقراطية؟ في أميركا؟ حتى هناك في أميركا يدفعون مئات ملايين الدولارات لتمويل الحملات الانتخابية فقط من أجل أن تختار مرشحاً من أحد حزبين جمهورياً أو ديمقراطياً، فإذا اخترت أحدهما تذهب بك الحكاية لما بعد أربع سنوات، وعندها ستختار أيضاً إما جمهوري أو ديمقراطي، عدا ذلك لا يمكنك المطالبة بأي شيءٍ آخر، هذه هي الديمقراطية.
÷ أفهم من كلامك أنه لا أمل بإيجاد دولة ديمقراطية في سوريا؟
} المشكلة أنني مضطر إلى شرح المشروح وتفسير المفسر، بينوشيه لم يقتل الديكتاتور أليندي، بل قتل الديمقراطي أليندي، لقد أباد بينوشيه الآلاف من الديمقراطيين التشيليين، وهؤلاء لم يكونوا لا مجرمين ولا قتلة، لكن تم قتلهم بأيدي الديمقراطيين وعلى مرأى من الديمقراطية، ثم ماذا حدث؟ مرت الجريمة واعتبر الغرب نفسه منتصراً للقيم الديمقراطية التي انتصرت بدورها بأيدي المجرمين والقتلة، هل أذكر لك أمثلة أخرى عن الديمقراطية؟ ما يحدث في سورية هو نفس ما جرى ويجري في العالم كله، سورية ليست اختراعاً، أنا أعرف أن النظام أحدث مشاكل كبيرة طوال أربعين عاماً من الحكم، لكن ما حدث في الأشهر التسعة الماضية لم يستطع النظام أن يفعله خلال مئة عام بأن يوصل البلد إلى هذا المستوى من الكارثة، أجل هناك ظُلم، وهناك أناس شكّلت معارضة لسنوات طويلة، ودخلت السجون، وثمة من ضحى بعمله أو حريته، وهناك من احتُقر أو أهين، حسناً.. لكن الآن الرهان ليس على حريتك أو على حقكَ في العمل، الرهان اليوم على حياتك، هذه لعبة قمار شيطانية، الناس لا تقبل أن تراهنها على حياتها، يمكنكَ أن تراهنني على نقودي؛ على ملابسي، على حقكَ في أن تجلس على كرسي أعلى من الكرسي الذي أجلس عليه، هذه رهانات مقامرين، لكن أن تراهنني على حياة الناس، وأنت تعرف أن الناس لا يربحون في المقامرة على حياتهم فهذه جريمة، أو دفع إلى الجريمة، يقولون لنا معارضة، يا أخي أين المعارضة؟ أنا أعرف أسماء المعارضين السوريين منذ سنين، أصدقاء كنتُ أحترمهم وأختلف معهم في السنوات الأخيرة، رغم أنني منذ ثلاثين عاماً كنتُ معهم حتى في أصغر التفاصيل، المعارضون السوريون معروفون وعلى رأسهم عارف دليلة وميشيل كيلو، الآن أصبحت هذه المعارضة منبوذة، وينبغي التخلص منها وإقصاؤها؟ هل لكون هذه المعارضة مثل كل المعارضات العاقلة الموجودة في العالم ودفعت ثمن مواقفها من حياتها الشخصية، هذه المعارضة أصبحت مطرودة ومرفوضة اليوم لأنهم يريدون معارضة أخرى لا أعرف صفتها ولا لونها ولا هيكلها، أجل يريدون إصلاحات، وهذا ما كنا نتحدث عنه أربعين عاماً، لكنهم اليوم لا يريدون هذه الإصلاحات، بل إنهم يعملون جاهدين لعدم إنجاحها وتحققها، هم يسعون اليوم لمنع المؤسسة السورية من تحقيق هذه الإصلاحات، وهذه جريمة أخرى، فهم لن يمهلوا النظام السوري للقيام بالإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة، ولا يمكن أن تتحقق عبر النداء على الناس بالميكرفونات، نحن نعرف كيف تبنى الدول، وكيف تتحقق الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، الإصلاح لا يتحقق في ست ساعات، ولا في ستة أشهر. منذ ثمانية أشهر قلت في أمسية لي في بيروت: إنني محبط وحزين، الآن أنا أكثر من ذلك، وهنا لا أتحدث باسمي الشخصي أنا أتحدث باسم الناس، يقولون لك يريدون حواراً بين المعارضة والنظام، وأنا أقول أن هناك طرفا ثالثا يجب أن يمثّل في هذا الحوار، وهو أكبر من المعارضة ومن النظام، هناك الشعب، أنا أيضاً أريد الدخول إلى هذا الحوار، وليس فقط برهان غليون والنظام يدخلون إلى هذا الحوار، أنا الشعب الذي أريد أن أكون في هذا الحوار وليس فقط رضوان زيادة يدخل إلى هذا الحوار، «فزيادة» يحاور من واشنطن، والنظام يحاور من دمشق، بين هذا وذاك ثمة شعب حجمه بحجم الشعب، لكن أحداً لا يريد لهذا الشعب أن يكون في الحوار، لا أعني فقط الشعب الذي خرج في مظاهرات أو مسيرات، أعني الشعب القابع في بيته ضجراً وخائفاً وليس لديه الحماس للخروج، هذا الشعب أعرف كيف يفكر، ولكن البنادق وأصحاب البنادق لا يريدون للشعب أن يقول كلمته، سواء الليدي كلينتون أو السيد أردوغان أو المسيو جوبيه، لا.. لا أنتم أيها المعارضة ولا أنتم أيها العرب تريدون للشعب السوري أن يكون في الحوار، أنتم تكذبون عليّ، وأنا لستُ شخصاً، أنا ابن الشعب، وكلمة الشعب هنا أعني بها الناس، الناس الأحياء المتورطون في الدخول إلى لعبة الموت، إلى متى سيظل ممنوعا على الناس المشاركة؟ إلى متى سيبقى الخائف والمظلوم بحاجة إلى حلف مثل حلف الأطلسي.؟
أخاف من هذه المعارضة
÷ يعني نحن اليوم أمام الكارثة التي تحدث عنها نيتشه، عندما تساءل متى تقع المأساة، فأجاب: تقع المأساة عندما يقتتل طرفان كل طرف منهما يشعر أنه على حق؟
} أريد أن أوضح شيئاً هنا؛ إذا انهار النظام في سوريا الذي عارضتُه أربعين عاماً إلى أين سأذهب؟ إلى المعارضة؟ أنا أخاف من هذه المعارضة التي ابتدأت مشوارها ومنذ الأسابيع الأولى بشعار «لا للحوار» النظام السوري لم يخفني، ظلمني في عملي أجل، ومنعني أحياناً من الكتابة، لكنه لم يخفني كما هذه المعارضة، كيف سيتعاملون معي غداً؟ هل سيتعاملون على أنني عميل للنظام؟ أم على أنني لم أستطع أن أكون جندياً في جيشهم؟ إلى متى سنبقى خائفين؟ هذه مصيبة، لقد قالوا لا للحوار، هل هناك كائن عاقل في الدنيا يقول لا للحوار تحت أي ظرف وفي أية مناسبة؟ أنا أخجل أن أقول لا للحوار حتى مع الإسرائيليين الذين أشمئز منهم ومن جرائمهم، وأحتقرهم، إلا أنني أخجل أن أصرح وأقول لا للحوار معهم. عندما تقول المعارضة لا للحوار هذا يعنيني أنا شخصياً، فهم لا يريدون الحوار معي، إذاً ماذا تريدون؟ أنتم تريدون أن تروني مقتولاً فقط، وأنا أرفض أن أكون مقتولاً، من خاضوا الحرب العالمية الثانية جلسوا في النهاية إلى طاولة الحوار، اليابانيون والأميركيون جلسوا في نهاية هذه الحرب الكبرى إلى طاولة الحوار، بل حتى في أثناء الحرب كان هناك حوار بينهم، وفي النهاية تصالحوا وجلس الياباني في أحضان الأميركي. تقول لي لا للحوار فيما أعداء الحرب العالمية الثانية تحاوروا؟ ، الحوار كان من الممكن أن يجنّب البشرية مئات ملايين القتلى، فيما المعارضة السورية قالت ومن الأسابيع الأولى: لا للحوار.
المثقفون أخافهم
÷ لكن المعارضة تصر على أن ما يجري في سوريا هو ثورة من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة؟
} إنهم يمارسون فعل الإلغاء عبر تصنيفات تبررها كلمات كالثورة والديمقراطية والحرية، فليس كل من قال أنه الثورة أركع وأشعل له شموعاً، مُرحباً به: أهلاً وسهلاً أنت الثورة، لا تخيفوني بكلمة الثورة، هذه الكلمة العظيمة والمباركة التي يجب أن أقف لدى سماعي لها باستعداد، لو كنتُ سأقف لكلمة الثورة باستعداد لوقفت لها منذ أربعين عاماً، لكننا لم نقف وقتها باستعداد ولم يعاقبنا أحد على ذلك، أجل دفعنا بعض الضرائب، لكننا لم نخف لأننا لم نغنّ للثورة، أما الآن فأنا لا أجرؤ حتى على القول بأنني ضد الثورة، لا أجرؤ على إعلان موقفي من هذه الثورة، اليوم صار هناك أكثر من خمسين كلمة مقدسة وعليك أن تقول لدى ذكرها على مسامعك: صدق الله العظيم، عليك أن تقول صدق الله العظيم على كلمة المعارضة، وصدق الله العظيم على كلمة الحرية، وصدق الله العظيم على كلمة الطهارة، وصدق الله العظيم على كلمة الديمقراطية، أنا شخصياً هارب من التصنيف، وأرجو أن لا ينسى أحد أنني رجل ماركسي شيوعي علماني لي عدو وحيد على هذه الأرض هو النظام الأميركي، وعندما أقول النظام الأميركي فضمناً أعني إسرائيل.
÷ المثقفون السوريون لهم مواقف مما يجري اليوم في الشارع كيف ترى إلى هذه المواقف بعد رحيل بعضهم إلى أوروبا ودول الخليج؟ لاسيما بعد أن تم وضعك من قِبلهم على ما يسمى بقائمة العار؟
} المثقف هو دائماً من يعرف كيف يرتب خسائره، لا أن يرتب أرباحه، أنا شخصياً رفضتُ عدة دعوات وُجِهت إليّ، كان آخرها مهرجان لودفيغ، أو مهرجان سيت في فرنسا؛ هذا المهرجان السيئ الصيت، فالمطلوب أن تشتم النظام ليدعك الأوروبيون إلى مهرجاناتهم الثقافية، ويسمونك بعدها ربما بشاعر الثورة، هذه شؤون من يريد تحقيق الأرباح، أنا لا أريد أن أحقق أرباحاً، كوني لستُ معتاداً فقط على خسائري، بل إنني أبذل قصارى جهدي على الدوام كي أخرج خاسراً، منذ أربع سنوات كان بإمكاني أن لا أوجه تلك الرسالة الحمقاء لمجلس الثقافة الأعلى بالقاهرة عندما رفضتُ المشاركة في مهرجان الشعر الدولي هناك، عندها قلتُ في تلك الرسالة:
إنني لا أستطيع أن ألقي شعراً والعلم الإسرائيلي يرفرف فوق رأسي في السماء المصرية، ومع ذلك لم أستطع إلا أن أكون أحمق إلى هذه الدرجة، فكانت النتيجة أن صنفني المصريون، ومن بعدها الأوروبيون أصحاب جثامين الضمائر الميتة، حتى إنني هذه السنة رفضتُ دعوةً وجهت إليّ من مهرجان الشعر الذي كان مقرراً إقامته في اسطنبول من شهر نيسان الماضي، والغريب في الأمر أنهم أطلقوا على هذه التظاهرة مهرجان الشعر للربيع العربي؛ مع أن الأحداث في سوريا كانت وقتها في بدايتها، إلا أنني لا أقبل أن أُستدرج تحت هذه الإنشاءات الرخيصة، وبعدها بشهرين رفضتُ أيضاً المشاركة في مهرجان شعر بهولندا، لأنني أرفض أن أتحوّل إلى استثمار، وهذا معناه إذا كنتَ لا تقبل أن تتحول إلى استثمار أن تقبل بأن تكون خسارة، فالشاعر كما قلتُ غير مرة في قصيدة لي: الشعراء لكي يخرجوا رابحين ينبغي عليهم دائماً أن يتعلموا كي يديرون خسائرهم، أنا فعلاً أحتاج لمدير أعمال يدير وينمي لي خسائري كي لا تخسر إلى الأبد.! أنا أخجل أن أخرج رابحاً في يوم من الأيام؛ كوني أعرف أن من يخرج رابحاً هو سارق بطريقة أو بأخرى، المطلوب اليوم هو حرب أهلية، وأقسم لك أنه إذا كان الأميركيون والأوروبيون والإسرائيليون غير فرحين حتى أقدامهم لما يحدث اليوم في سوريا فأنا سأصطف إلى جانب المعارضة، أنا حيث تفرح أميركا لا أستطيع أن أكون، المشكلة أن في سوريا لا يوجد معارضة واحدة، هناك مجموعة معارضات، منها من أتفق معه، ومنها من لا أتفق، لكنك لا تعرف بمن تثق اليوم، ومن ستعقد عليه الأمل، حقيقةً لا أحب أن أستشهد بقول لعلم من أعلام الشيوعية كمكسيم غوركي لأن مثقفي الحداثة اليوم يتعاملون مع غوركي كما يتعاملون مع المنفلوطي، ومع ديستويفسكي كما يتعاملون مع إحسان عبد القدوس، غوركي يقول عن المثقفين إنهم الجراء التي ترضع من أثداء البرجوازية واللصوص، المثقفون هم أرخص الكائنات. أذكر عندما وقّعنا بياناً حول دخول الجيش السوري إلى لبنان كان المثقفون يتباهون بهذا البيان، ويشدون على أيدينا، لماذا اليوم لا يقف المثقفون اللبنانيون إلى جانبنا، صحيح أصدروا بيانات، لكنها بيانات لإرضاء الأطراف نفسها التي وقّعوا بيانهم الأول من أجل إرضائها، إنها لعبة الكسب على ضفتي الخندق، لا تقل لي أن همكَ كمثقف هو مثالب النظام، لن أصدقكَ، أنت همكَ أن تكسب، والآن كما يبدوالفرصة سانحة للمراهنة على الطرف الآخر كون الغنائم أكبر، ودائماً لدى هؤلاء المثقفين مسوغات ومستندات لما يقولونه، لأن معجم الكلمات المقدسة «ثورة، حرية، ديمقراطية» رائجة، بعض مثقفي لبنان من شعراء وفنانين وصحفيين الذين كانوا يقولون لي بعد توقيعي لبيان ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان بأنهم يحيّون شجاعتي، الآن هم يقولون أنهم يحتقرون جُبني، هم أنفسهم اليوم من أطالبهم بموقف نحيي شجاعتهم عليه، لكن دون أن يفكروا بالأرباح، فأنا أعرف بالتفاصيل كيف رتب كل واحد من هؤلاء استفاداته منذ ثلاثين سنة حتى الآن هنا وهناك، أعرف أن ثمة مثقفين ساهموا في إلغاء أنفسهم لأنهم يعرفون أنهم لا حول لهم ولا قوة، نحن قلنا كلمتنا حتى عندما كنا نعرف أن هذه الكلمة ستعرضنا للمهانة، وكثير منا تعرّض للسجن أو لفصله من عمله؛ أما من كانوا يصنفون أنفسهم على أنهم شعراء الجنوب وأبطال الصحافة الحرة لم يقولوا كلمتهم حتى الآن وصمتوا عن قول الحقيقة؛ فرغم أن كل واحد منهم يقف وراءه جيش مالي أو حزبي أو ميليشوي ولم يتعرض لما تعرضنا له إلا أنه ينوء بالصمت عن قول أمور كثيرة، ولهذا أنا فعلاً أخاف المثقفين، وأنا لا أحترم الكائنات التي أخافها، ومن بين كل من عاشرت طوال عقود حياتي الماضية أكثر من خفتُ منهم هو صنف المثقفين، فهناك مثلاً صنف الدجاج، الأسماك، الثيران، الذئاب، البشر، وهناك المثقفون الذين أخاف منهم، أولئكَ الذين يعتبرون الثقافة مرتبة وصناعة يجب عليكَ دائماً أن تنتبه منهم، وأن لا تدير ظهرك لهم، وإذا ما واجهتهم أوح لهم دوماً أن معك سلاحاً، أياً كان هذا السلاح، سلاح السلاح، أو سلاح وقاحتك وفجورك واحتقارك، أرِهم إياه، وإلا سيظلون مثقفين، يعني سيظلون استبداداً، نعرف ماذا يفعل المثقفون اليوم، كل المثقفين الذين كانوا أُجراء أيام حافظ الأسد وبشار الأسد؛ الآن عندما رأوا السوق مربحة أكثر صاروا يعملون أجراء لدى أعداء بشار الأسد وحافظ الأسد، المثقفون الذين جلسوا على الكراسي العالية في الأيام الماضية هم اليوم موعودون بكراسٍ أخرى، المثقف كائن وسخ، المثقف الذي يعمل في الفنون والكتابة كي يستطيع أن ينفي عنه الوساخة عليه أن لا يقول أنه ينتمي لجنس المثقفين؛ كون الثقافة الحقيقية هي في النهاية مهنة الخاسرين، هي مهنة الناس الذين يعانون بصمت، ولا يطلبون ثمن معاناتهم من أحد، لا من البائد ولا من القادم، لكن المثقفين الأجراء يملكون دائماً من الأوراق الثبوتية ما يثبت أنهم قديسون.
÷ هل نستطيع أن نشبّه موقف بعض المثقفين السوريين بموقف بعض اليسار العراقي من الاحتلال الأميركي بعد سقوط بغداد 2003؟
} كونك ذكرت بغداد، أتذكر هنا «كراسين» العراق من مثقفين وفنانين وشعراء ومن كتّاب عاشوا أُجراء في كل مكان من العالم، أتوا إلى سوريا فكانوا أجراء، ذهبوا إلى السويد ولندن فاشتغلوا أُجراء، وعندما أتى الأمريكان إلى العراق قالوا إنهم يريدون الديمقراطية، أذكر أنني تخاصمت مع كتّاب ومثقفين عراقيين حتى الآن لا يطيب لهم العيش إلا هناك حيث الأجور الأوفر، ولكن ماذا حدث عندما جاءت تلك الديمقراطية إلى العراق؟ هل تحب أن أفتح لكَ التلفاز كي تتفرج على ديمقراطية العراق؟ أم أنكَ رأيتها؟ هذه الديمقراطية أخافها كما أخاف المثقفين، إنهم يريدون ديمقراطية على مقبرة، المثقفون العراقيون كانوا يريدون الديمقراطية بمن فيهم أحزاب يسارية، وعلى رأسهم رئيس حزب شيوعي؛ أحزاب عراقية ناضلت أكثر من خمسين عاماً من أجل حياة كريمة للشعب العراقي، لكنهم وبعد دخول الديمقراطية عملوا كماسحي أحذية لدى العسكر الأميركي، وفي نهاية المطاف كان لابد لهم من ضحية، فكانت ضحيتهم سعدي يوسف، الشاعر الأعزل المغلوب الذي لا يتقن صنع شيء في الحياة سوى أن يكتب شعراً؛ جميعهم فتكوا بسعدي فقط لأنه يصرّ حتى الآن أن يقول عن نفسه أنه شاعر ماركسيّ يكره أميركا، سعدي يوسف أحد أكثر المثقفين العرب شجاعةً لأنه واحد من قلة ممن يعرفون العلاقة بين الخسارة والشرف، ولهذا أطالب بتنظيم حملة لتسمية أحد شوارع دمشق باسمه، وأقول له أنت لستَ الشيوعي الأخير فأنا توأمك اليتيم، سعدي الذي لم تكفِه سكاكين المثقفين العراقيين للفتك به فانضمت إليها سكاكين الجيش السوري الديمقراطي على صفحات الفايس بوك؛ رأيتهم كيف هجموا عليه بصفته شاعراً ماركسياً، وهنا سأكتفي بقول: اللعنة. ماذا تريدون.. ديمقرطية؟ الديمقراطية أداة للعيش على ما يسمونه البلاد، العيش مع بشر، لكن أن تريد ديمقراطية دون بلاد ودون بشر فهذه دعارة، أنا شخصياً لا أعرف كيف أتصرف مع الديمقراطية، وخصوصاً ذلك الصنف من دعاتها؛ هؤلاء الذين ومن الأسابيع الأولى للأزمة عندما كتبتُ عدة جمل قلتُ فيها إن ما يحدث اليوم في سوريا ليس خلافاً على حائط بيت، أو على ملكية شجرة، الخلاف هنا على ميدان حياة بشر؛ نحن جميعنا منهم، قلتُ لهم الآن يجب أن نحتكم إلى الحوار وإلى التفكير بهدوء، فهبوا عليّ جميعهم غاضبين: أي حوار؟ لقد فات أوان الحوار، اللعنة.. كيف فات موعد الحوار؟ إنه لم يبدأ بعد حتى ينتهي! فكتبت لهم في صفحتي على الفيسبوك: البيت يوشك في الانهيار على رؤوس الجميع وأنتم تتذابحون على من يحق له بأن يحمل المفتاح، فردوا عليّ أن هذا ليس بيتاً، اذهب وابحث لكَ عن بيت، لكن هذا بيتي؛ ومعي صك ملكية به ولي جزءٌ من عتبته وجداره وشجرته وهوائه؛ إذاً هو بيت؛ لكن يبدو أن الديمقراطية الفاشستية التي تتشدقون بها لا تعني إلا شيئاً واحداً: هي حقكم في أن تكونوا أنتم طغاة وسفاحي المستقبل، بعدها كتبتُ يومية عنونتها بـ«الهالكون» والتي قلتُ فيها: «إذا كان لابد من موت أحد ونجاة أحد فهذا يعني أن الجميع هالكون» فانقض عليّ اثنان من عتاة الديمقراطيين السوريين المقيمين في باريس، أحدهم قال لي أنني بكلامي هذا أساوي بين القاتل والقتيل، مع أن هذا الكلام قلته منذ أربعين عاماً وتماماً في مقدمة كتابي «كم من البلاد أيتها الحرية» عندما كتبت: وأما أنا فأرى أن الحرية قضية عظمى تستحق أن يعفى الإنسان من الموت في سبيلها، كانوا وقتذاك هم أنفسهم يتمسحون بي ويعتبرونني صوت ضميرهم لأنني كنت أقول هذا الكلام؛ أجل إنني لا أساوي بين القاتل والقتيل، بل أساوي بين القتيل والقتيل، وأضيف ما لن يرضيهم أبداً: وأساوي أيضاً بين القاتل والقاتل، ثم خرجتُ من الفيس بوك؛ هذا الميدان الدموي هو بالفعل ليس إلا إسطبلا للفاشستية الديمقراطية.
÷ لكنك كتبت يوميات لميدان التحرير باركت فيها ثورة المصريين؟
} عندما أُعلن عن سقوط حسني مبارك بكيت فرحاً لأنني سمعت أن شخصاً كبيراً سقط؛ لكنني بعد أيام قليلة كتبتُ في جريدة الأخبار اللبنانية وتساءلت عن نهايته؟ لقد جاء بعدها دور الأميركيين لأن القصة كلها في مصر حدثت على غفلةٍ منهم، فمبارك واحد من كبار رموز الأميركيين والإسرائيليين الذي سقط على غفلة منهم، فلم يعودوا باستطاعتهم أن يشتموه كونه شقيقهم التاريخي، ولم يعد بإمكانهم أيضاً أن يعيدوه إلى الرئاسة، لقد وقعوا في الورطة، لذلك كان ينبغي عليهم إعادة ترتيب الوضع، وكل ما يجري اليوم في مصر وبعد قرابة سنة على سقوط مبارك هو إعادة ترتيب الوضع، ولذلك كتبت في جريدة الأخبار: «لن يُسمح للثورة المصرية بالإقلاع إلا بعد صناعة النسخة البديلة من حسني مبارك المستقبل، العقل يقول إن هذا ما سيحدث في مصر، أما الأحلام فتقول أتمنى أن أكون مخطئاً». تبين أنني لم أكن على خطأ، أجل هذا ما يفعله الآن الأمريكان في مصر، فهم الآن يصنّعون عدة نسخ من مبارك وليست نسخة واحدة، ولذلك، أيتها الثورة في بيتنا، أيها الديمقراطيون في بيتنا، من الآن أتوسل إليكم وأرجوكم وآمركم، أريد أن أعرف ما هي النسخة البديلة في سوريا؟ إذا كنتم تريدون أن تجلبوا لنا حسني مبارك سوريا مع سلام مدفوع الثمن مع (أحباب قلبي الإسرائيليين) ولقاء لا شيء فلا.. إذا كانت ثورتكم ستنزع مكاسب الفلاحين التي حصلوا عليها من أيام العظيم عبد الناصر إلى اليوم أيضاً سأقول لكم: لا، إذا كانت هذه الثورة بصفتها ديمقراطية وحرة ستمنع عن التلاميذ حقهم في التعليم المجاني سأقول: لا، أريد أن أعرف إذا كان هناك بعد هذه الثورة عودة إلى الإقطاع؟ إذا كانت هذه الثورة ستجرّم اليساريين؟ إذا كان الكهنة سيحكمون البلاد؟ فمنذ تسعة أشهر لا تقولون لنا سوى إركعوا للديمقراطية، طز بالديمقراطية، أنا من أربعين عاماً لا أومن بالأنبياء مع أن معظمهم أحترمه، إلا أنني لا أومن بهم، قل لي ماذا سنفعل بهذه الديمقراطية؟ بحياتي لم أكتب نصاً أمتدح فيه الديمقراطية، لطالما قلت: أنا أكره الديمقراطية وأميركا.
(دمشق)
السفير