نساء الثورة السورية… القريشيات الجدد
رستم محمود
“لكني أخجل من النساء القريشيات”. يتداول هذا المثل بشكل واسع في ثقافتنا الشعبية وذلك حينما يصر المرء على القيام بفعل ما، بالرغم من اقتناعه بخطورته وآثاره السلبية عليه، مقابل أن لا يقال عنه إنه تراجع وأنحى. فالإصرار ينبع من موقف قيمي متعالٍ، يصر على أولية المعاني والقيم، بالنسبة للفاعل، على غيرها من المفاهيم النفعية التي قد تدفعه للتراجع.
المنبع التاريخي للمثل، يعود لقصة متخيلة في التراث الشعبي عن لقاء تم بين الرسول وعنترة بن شداد، حيث أبدى الرسول إعجابه بشجاعته وكرمه وشعره، لكنه طلب منه أن يدخل في الإسلام، كي تكتمل فضائله. وتذهب الحكاية إلى أن عنترة فكر ملياً بالأمر، وفي النهاية أبدى رفضه لدخول الإسلام. وحين استغرب الرسول رفضه هذا، رد عنترة بن شداد: “لكني أخجل من النساء القريشيات يوم القيامة، أخشى أن يقلن إن عنترة كان يخاف نار جهنم”.
هذه بعض القريشيات الجدد.
نساء الداخلية
اأسير بسرعة نحوهم حينما يحاولون جر أحدهم، وأنادي بصوت خفيض بالنسبة لصوتهم: “يا شباب يا شباب… إلخ” أحس بألم بالغ في جانب كليتي اليسرى، ألم أغرق ما بقي من العبارة في حنجرتي. التفت لجهة الألم، حيث تبدو ساحة المرجة وقتها وما يظهر من بناء وزارة الداخلية، كلفحة كردية تقليدية تحيط برأسي. يصلني من بعيد (مع أنه كان قريباً جداً) صوت صديقنا مازن درويش: “مو هيك مو هيك يا شباب…” يتركني الذي أشبع كليتي تشنجاً من ضربة واحدة، ويتجه صوب مازن. لا يصل إليه، فمن الخلف كان ثمة من وضع العصا على عنق مازن وجره. أضيع بينهما وبين ألمي الذي كاد أن يأكلني. أعود قليلاً للخلف، قاصداً زاوية كانت ما تزال مشمسة في ذلك الصباح الآذاري.
اتذكر كل الذين أحبهم من دون تقصد. في لحظة الرعب تلك، استنشق نفساً طويلا، أغرق رأسي بين قبضتي كفي، يصعد الألم من الكلية قليلاً نحو الأعلى ويتوقف فجأة. اسمع صراخ الطفل المرمي أرضاً، لقد كان أبن صديقتنا صبا، لقد كانت الحضن الذي يلمه وهو يصرخ في تلك اللحظات غير حضن أبيه، حيث رأيتهما سوية منذ لحظات. كان الحضن الذي يلف الطفل يبدو بأكثر من جهة، فكلما حاولت يد من الأيدي العشرة انتشال الطفل منها، صنعت الحاضنة من روحها حضناً آخر لتلف الطفل به، لقد رأيت بعيني كيف أن خمسة رجال لم يستطيعوا أن ينتشلوا ذلك الطفل من حضن سمر يزبك. في تلك اللحظات القصيرة، لا أتذكر أني رأيت منها شعرها الذهبي (قررت الروائية السورية سمر يزبك منذ عدة أشهر، كعادة البدويات القديمات وقت المصائب، أن لا تصبغ شعرها أو تتزين إلى أن تزول هذه الغمة عن بلادها وشعبها) فقد كان رأسها معكوفاً للأسفل كي يحمي “أبن صبا” من أي أذية ممكنة. كما أني لم ألمح عيني سمر الخضراوين البتة، فكل حواسها كانت منصبة على “رضيعها” ذاك.
حين أصل بالقرب منها (أنهى المناضلون معركتهم تلك قبل وصولي من دون أن يظفروا بالصيد الثمين “الطفل”) وأحاول أن ألمس الطفل، تبعدني بحركة غريزية تامة، وتعيد لفه بيديها. أبتسم كي أهدأ من روعها، تزفر الهواء الباقي في صدرها بقوة، ذلك الهواء الذي ربما حبسته كي تدخله بصدر الطفل لو لزم الأمر. كانت سمر في تلك اللحظات أماً محضة، كانت نفسها التي رأيتها من قبل تحدثني بألم وحنان وخوف عن صديقتها وأبنتها الوحيدة ربى. سمر يزبك التي كتبت “الصلصال” و”رائحة القرفة” و”طفلة السماء” انقطعت أخبارها عنا منذ ذلك اليوم الثاني من الانتفاضة السورية، لكن لا يعرف كم طفلاً تريد ان تحتضن سمر في هذه الأيام، وكيف لها أن تحيا، من دون أن تستطيع ذلك! ألتفت في تلك اللحظات، أرى الكثير من اللواتي يشبهن سمر يزبك. كانت ساحة المرجة في تلك اللحظات تعيد الاعتبار للنساء السوريات، كانت الساحة تحيي سيرة سارة مؤيد العظم، تلك المرأة التي يمكن إن يقال عنها الكثير، فلولاها لما كان للتحرر السياسي السوري من الاستعمار الفرنسي من معنى، طالما أن سوريا لم تتحرر من روحها القروسطية عبر محررات اجتماعيات مثل سارة العظم في ذلك الزمان.
نساء الميدان
بسبب قدومنا من الناحية الجنوبية، حالت قوات حفظ النظام بيننا وبين باقي الرفقة الذين أتوا من شمال المدينة، في ذلك العصر الذي سمي بـ”موقعة مظاهرة المثقفين”. ما أن صرنا بالقرب منهم، حتى رأيت مي سكاف تصرخ بطريقة بالغة، أعقبتها مناوشة بين عدد منهم وبين عناصر من حفظ النظام و”الشبيحة”. يروي أياد شربجي ما حدث في تلك اللحظات بما يلي: “قدم الضباط وسألونا من يمثّل المجموعة؟، تقدمت أنا ولحقني جميع زملائي دعماً لي، وقلت لهم بلهجة واضحة: “لا أحد يمثّل أحداً، كلّ يمثل نفسه” بدأوا ينظرون إلينا نظرة تحدٍّ. لم نأبه. طلب منا الضابط أن نتفرّق ونذهب فوراً لأننا لا نملك ترخيصاً بالمظاهرة، وقبل أن نجيب اندفع أحد الشبيحة وكان يلبس بنطالاً مموهاً وكنزة مطبوعة عليها خريطة سورية تتوسطها صورة للرئيس وقال لنا بلهجة متحدّية مستفزّة: “جايين تخربوا البلد انت وياه” فأجبته: “جايين نعبّر عن موقفنا”، فردّ مباشرة: “وليش جايين قدام جامع الحسن لإنن كلهن مجرمين؟ أنا انضربت هون الأسبوع الماضي من الكلاب اللي طلعوا من الجامع” فأجبته بكل بساطة: “يعني واضح حضرتك ما بتصلّي فيك تقللي ليش إجيت عالجامع الأسبوع الماضي؟” وعندما قلت ذلك ارتعد وبدأ الشرر يتطاير من عينيه وتأهّب للانقضاض. كل ذلك حدث وسط صمت مريب ومباركة واضحة من الضباط، عندها اندفع فادي زيدان وساشا أيوب ويم مشهدي وقالوا للضباط،: “بصفتو شو عم يحكي معنا هاد؟” فقال أحد الضباط للشبيح مشيراً بيده بالرجوع فرجع للخلف وذهب، لكن شبيحاً آخر تقدّم وهو يقول بلهجة متحدّية لمي سكاف ومشيراً لها بإشارة بذيئة جداً: “وقعتي على بيان الحليب مهيكي بدك حليب أعطيكي….؟؟” فتعالى صوته هو ومي سكاف التي صارت تصرخ فيه “احترم حالك نحنا سوريين متلنا متلك”، فيجيبها: “انتو سوريين يللي عمتحكوا عن جيشنا البطل اللي عمينقتل من هالعرصات”. وبدأنا جميعاً نصرخ مستنكرين، عندها تدخل أحد الضباط وأشار إليه بالصمت فصمت…. إلخ.
في تلك اللحظات عدنا إلى الخلف. كنا حوالي مئتي شاب وشابة، حيث تم أخذ المتجمهرين حول مي سكاف بطريقة عنيفة. تجمعنا في أوتوستراد الميدان، وكانت تفصلنا مسافة مئة متر عن قوات حفظ الأمن والشبيحة. من تلك المسافة كنا نسمع صراخ الذين يتم اعتقالهم.
ما كان يزيدنا ألماً ورعباً، تلك النظرات الصفراء التي كانت تلمع بعيون الأهالي المراقبين للحدث من شرفات حي الميدان، فبحركة عفوية كانت أغلب النسوة تضع يديها على فها في علامة الصدمة، وبعدها بثوان قليلة، كان الرجال يقعرون جباههم بأيديهم. في تلك اللحظات القاسية، تعالى صراخنا شيئاً فشيئاً: “الله سوريا وحرية وبس… الله وحرية وسوريا وبس.. إلخ”. كنت قد بقيت وحيداً في تلك اللحظات، بعدما افترقت عن باقي الذين أتيت معهم للمكان. لمحت من قريب صبية كانت تعض على طرف قماشة حجابها، كان ثمة هلعاً بالغاً في نظراتها، تمشي خطوة للخلف متراجعة، ثم تعود ثانية للتجمهر بيننا. لا أعرف حتى الآن، لم مسدت بيدي على رأسها من دون خوف أو وجل، وهي التي كانت توحي بمظهرها عن محافظة اجتماعية بالغة. فجأة رأيتها ترفع يديها معنا، ثم خرج نشيج ملفوف بالبكاء من حنجرتها، وبدأت تهتف معنا… أثناء ذلك، كانت القوات الأمنية تقترب منا لتفرقنا. يتقدمون ببطء ونتراجع ببطء… يسرعون نسرع.. إلى أن باتوا قريبين جداً منا. وقتها بدأنا نعدوا من دون تمهل. أتعثر بين مراقبة الطريق والفتاة التي كانت بالقرب مني، فأرى المسافة التي باتت بيني وبين قوات حفظ النظام لا تتجاوز الخمسين متراً. أدخل إحدى العمارات التي على الأوتوستراد، أعدو حتى الطابق الأخير، بعدما سمعت صوت خطوات على نفس الدرج، أقرع الجرس بقوة، يأتيني صوت من خلف الباب “مين مين..” أرد :” خالة.. خالة..” تقترب أصوات الأقدام أكثر، أنظر للأسفل فأرى شباباً مثلي يصعدون للأعلى، تفتح المرأة الأربعينية الباب، ندخل جميعاً دفعة واحدة. نجلس جميعاً مقطوعي الأنفاس في ممر البيت، تأتينا المرأة بالماء وهي تخاطب نفسها: “الله يحفظكون الله يحمكيون…” وتجلس بصمت بالقرب منا. لم يكن من مجال لأي كلام، في ذلك الصمت. تخرج من إحدى الغرف فتاة شبه منقبة، وهي تحمل بيدها قماشة سوداء، تخاطب أمها: “ملايتك يامو” (حجابك). تنظر الأم لأبنتها، وتحمل القماشة في يدها بهدوء، وتضعها جانباً من دون أن تلبسها!! نبقى لدقائق في حالة الصمت تلك قبل أن نخرج، وتبقى المرأة تدندن “الله يحفظكون الله يحميكون”.
ما الذي يجمع بين مي سكاف والصبية والمرأة وهذه البلاد؟
مي سكاف تركت التمثيل لاعتبارها أن الوسط الفني السوري مخجلاً ومنافقاً وغير جدير بالانتماء، وكونت معهداً فنياً، تخرج منهم العشرات من الفنانين الملتزمين (ملتزمين بالناس مش بالايديولوجيا) . المرأة المحافظة التي لم تر غضاضة من الحضور سافرة بحضور مجموعة من الشباب الذين لا تعرفهم. ما الذي يجمع بينهم سوى روح هذه البلاد ومعناها المنتظر ؟!
نساء النباريش
منذ الأيام الأولى، ذات ظهيرة في أيام الجمع، نتجمهر أمام جامع قاسماو وسط مدينة القامشلي. بالعادة يبلغ أعداد المتجمهرين خارج الجامع أضعاف الذين يدخلون لأداء الصلاة. نبدأ بالمسير بعيد انتهاء المصلين، نمشي مسافة كيلومتر واحد تقريباً نحو الجهة الغربية من المدينة، على امتداد الشارع المسمى عرفاً “طريق عامودا”، وهو شارع “هاشم الأتاسي” بالأساس.
منذ بداية أيار، باتت شمس الظهيرة بالغة القسوة على المتظاهرين، خصوصاً وأن الحرارة تتجاوز الخمسين في تلك الفترة من الظهيرة، كما أنها تكون مصوبة للوجه مباشرة في وجهة المسير. ما يزيد من حرارة الجو في ذلك الحين، هو حجم التفاعل الجسدي النفسي مع جموع المتظاهرين، حيث طوال المسير البطيء في تلك المسافة، والتي تمتد لمدة ثلاث ساعات تقريباً، لا يتوقف المتظاهرون عن رفع الأيدي والأجساد والحناجر، واستمرت الوتيرة كذلك حتى في شهر رمضان، حيث كان يغمى على الكثير منهم أثناء تلك المسافة.
طوال تلك المسافة ولساعات طويلة، وعلى طرفي الطريق بين جامع قاسماو ودوار حي الهلالية، تطل فتيات من نوافذ البيوت وهن يحملن نباريش مياه لإنعاش المتظاهرين. وغير الماء، فإن نساء النباريش لا يتورعن عن مشاركة المتظاهرين بالهتاف ورفع الأيدي، وتوزيع الابتسامات ورد التحيات التي تأتيهن من المتجمهرين، وعلامات التبرج والأناقة تبدو واضحة عليهن بالعموم. في بعض النوافذ تتواجد أكثر من واحدة منهن، ويلاحظ أنهن يتزاحمن على حمل نبريش الماء من أيدي بعضهن البعض. لكن الأجمل في تلك اللحظات، أن نساء النبريش يستقصدن رش الماء للأعلى، كي يتفكك الماء ويرجع هادئاً وبطيئاً وغير حاد على أجساد المتظاهرين!!
ننتظر يوماً قريباً تقوم به السلطات البلدية في بلادنا برش المتظاهرين بالماء البرد والسلام، فقد تعبت نساء النبريش، وتعبنا.
المستقبل