نفحة الخطوة الأولى.. قصائد يونانية
ترجمة عن اليونانية: روني بو سابا
تبدو العلاقات الثقافيّة العربيّة اليونانيّة في أسوأ حالاتها اليوم، والترجمة مرآة عاكسة، إذ تندر الترجمات بين اللغتين، ولا سيما المباشرة منها. وفي حين يرحل المترجمون بسبب الشيخوخة لا نجد من يشغل مكانهم. كأن ثمة تغاضياً لدى الطرفين عن قيمة الآخر وثقافته، في مقابل انشداد مزمن إلى المركزية الغربية. ترى هل تستطيع مبادرات صغيرة في الصحافة الثقافية التنبيه إلى أهمية هذه العلاقة المهملة وإضاءة دروب استعادتها، وهل يمكن لقصائد الشعراء أن تذكّر برحابة الفضاء الحضاري المهجور بين الثقافتين؟
أمورغوس
نيكوس غاتسوس
وبِلادُهم مربوطة إلى الأشرعة والمجاذِيفُ بالريح معلَّقةٌ
نام الغارقون مدَجَّنين كوحوش مَيتة في مَلاءات الإسفنج
لكنّ عيون الطحالب تنظر إلى البحر
عساها ريحُ الشَمالِ تعيدُهُم مع القوارِبِ جديدة الطلاء
فإنّ فيلاً شارِداً يستحقّ دوماً أكثر من نهدي
فتاة يتمايلان
فقط لتُضاءَ على الجبال سقوف الكنائس المهجورة
بعناية الزُهرة
لتتماوجَ الطيور بين أغصان الليمونة
مع النفحة البيضاء الثابتة نفحة الخَطوة الأولى
■ ■ ■
سوناتا ضوءِ القمر
يانيس ريتسوس
دعني آتي معك. ما أجمل القمرَ الليلةَ. القمرُ جيّد- لن يظهرَ أنّ شعري شاب. سيُعيدُ القمر لشعريْ لونَه الذهبيّ. لن ترى بياضَه. دعني آتي معك.
حين يطلّ القمر تكبر الظلال في البيت، أيادٍ خفيّةٌ تسحب الستائر عن النوافذ، إصبع واهنة تكتب على غبار البيانو كلماتٍ منسيّةً- لا أريد سماعها. أصمت.
دعني آتي معك أسفل قليلاً، إلى حيث تنعطف الطريق وتظهر المدينة إسمنتيّة ورقيقة، وهي إذ يبيّضها ضوء القمر على هذا القدر من اللامبالاة واللاهيولى، على هذا القدر من الإيجابيّة وكأنّها ميتافيزيقيا فيمكنك أخيراً أن تؤمن بأنّك موجود وغير موجود، بأنّك لم تكن قطّ، لم يكنِ الزمن ولا فسادُه. دعني أجيء معك.
أعرف جيّداً أنّ كلَّ امرئٍ يسير وحدَه إلى الحبّ، وحدَه إلى المجد وإلى الموت. أعرف ذلك. جرّبته. لا ينفع. دعني آتي معك.
■ ■ ■
زنوبيا
قسطنطين كفافيس
الآن وقد صارت زنوبيا ملكة على بلاد كثيرة
عظيمة
الآن إذ يُعجَب بها كلّ الشرق،
ويهابها الرومان أيضاً،
لمَ لا تكتمل عظمتها؟
لماذا تحسَبُ امرأةً آسيويّة؟
فليراجعوا نسبها فوراً.
ها هي بكل وضوح تتحدّر من سلالة اللايذيّين
ها هي بكلّ وضوح من مقدونيا.
[سفسطائيّان ضليعان بالتاريخ
يمكنهما أن يضطلعا بالمهمّة العظيمة]
■ ■ ■
أوائل اسمِك
أوذيسياس إيليتيس
لا يزال باكراً العالم، هل تسمعين
لم تروّضِ الوحوشُ، هل تسمعين
دمي المهدورُ، قربَه الدقيقةُ – هل تسمعين
السكِّينُ
كالخروفِ يركض في السموات
ويكسر غصون النجوم، هل تسمعين
هذا أنا، هل تسمعين
أحبّكِ، هل تسمعين
أحملكِ وآخذكِ وأُلبِسُكِ
ثوبَ عرسِ أوفيليا، الأبيضَ، هل تسمعين
أين تتركينني، أين ترحلين ومَن… هل تسمعين
يُمسِكُ بيدِكِ فوق الطوفانات
المتسلّقة الشاهقة وحمم البراكين
سيأتي يوم، هل تسمعين
تدفننا والسنوات الألفُ اللاحقةُ
ستجعلنا متحجِّراتٍ برّاقة، هل تسمعين
تسطع عليها اللامبالاة هل تسمعين
لا مبالاة الناس
وألفَ قطعةٍ تَطرَحُنا
قطعةً قطعةً في المياه، هل تسمعين
أَعُدُّ حَصَياتي المُرّة، هل تسمعين
وهو الزمان كنيسة كبيرة، هل تسمعين
حيث تذرُف أحياناً صُوَرُ
القدّيسين
دمعاً حقيقيّاً، هل تسمعين
والأجراسُ تشقُّ في العُلى
ممرّاً عميقاً لأعبُر
ينتظر الملائكةُ بشموعٍ ومزامير الرُقاد
لا أرحل إلى أيّ مكان، هل تسمعين
لا أحدَ أو كلانا، هل تسمعين
زهرةُ العاصفةِ هذه، هل تسمعين
والحبِّ
قطفناها مرّة وإلى الأبد
ولا يُمكن أن تُزهِرَ إلا هكذا، هل تسمعين
في غير أرض، على غير نجم، هل تسمعين
ليس هناك التراب، ليس هناك الهواء
نفسه الذي لامسناه، هل تسمعين
وما أفلح بستانيّ في غير أوقاتٍ
بسبب شتاء كهذا، ورياح الشمال، هل تسمعين
أن يهزَّ زهرةً، إلّانا نحن، هل تسمعين
وسَط البحر
بمشيئة الحبِّ وحدَه، هل تسمعين
أَعلينا جزيرة بأكملها، هل تسمعين
بمغاورَ وكهوف ومنحدراتٍ مزهرة
اسمعي، اسمعي
مَن يتحدّثُ إلى المياه، مَن يبكي- هل تسمعين؟
مَن يَنشُدُ الآخر، مَن ينادي- هل تسمعين؟
هو ذا أنا أنادي وهو ذا أنا أبكي، هل تسمعين
أحبّكِ، أحبّكِ، هل تسمعين.
■ ■ ■
تعاضُد
يورغوس سيفيريس
ها هم هناك – لا أقدر أن أتغيّر-
بعينَين كبيرتَين خلف الموج
من حيث يهبّ النسيم
إذ تَتبعُ أجنحةَ الطيور
ها هم هناك بأعينهم الكبيرة
هل تغيّر أحد قطّ؟
ما تبغون؟ رسائلكم
تبلغ القارب وقد تحوّرت
حبّكم يصير كرهاً
هدوؤكم يصير اضطراباً
ولا أقدر أن أرجع
لأرى وجوهكم على الشاطئ
ها هي العيون الكبيرة هناك
وحين أبقى مسمَّراً إلى مساري
وحين تتساقط في الأفق النجوم
تكون هناك مربوطة إلى الأثير
كحظّ صار لي أكثرَ من حظّي.
أقوالُكم- عادةُ السمع-
تضجُّ في معدّات القارب وتَعبُر
علّني أومن بوجودكم
أيها الرفاق يا أبناء القدر، يا ظلالاً لا وجود لها.
قد فقد لونَه العالم
كالطحالب على شاطئ الزمن الآخر
صارت رماديّةً، جافّةً، في رحمة الريح.
بحر كبير هما العينان
متحرّكتان وجامدتان كالنسيم
وأشرعتي على قدر احتمالها، وإلهي المعينُ.
■ ■ ■
وُلِدتُ في عصر النُحاس
كوستيس موسكوف
وُلِدتُ في عصر النُحاس
الآن
لا يذكرني أحد
غطّت أشجارُ الغار والآجامُ مذابحي.
أيتها اللوزة المرّة، أنتِ يا حبّي،
شربتُ ثلاثة براميل من خمر “ريتسينا” في حانة “ذومنا”
أمس، لكي أنسى
شربتُ نهرَ ألياكمُنَ، وريح فارذاري العاتية-
حول بحيرات ثيساليا جفّت
لأجلك المساكن.
ثلاثة آلاف سنة وأنا أنتظر أن أموت،
ولا أقدر أن أنحلّ من كثرة ما أحبّك.
■ ■ ■
ثلاثون عاما
أولمبيا كارايورغا
في البدءِ كنتُ بَحراً
ثمّ صرت صخوراً وطيوراً.
الآن اختنق البحرُ
تفرَّقَتِ الطيورُ
لم يَبقَ إلا خيط رمل رفيع
عليه بعض نباتات غريبة، بعض زهور غريبة.
منتصرة
أتقدَّم متمسِّكة بنظرتكَ
بين العيون الكوابيس
والنساء الحديثات الثَريّات
والقاعدين بلا مبالاة يدخّنون
والموتى الذين يقرأون
والأضواء الكوابيس
لأصِلَ وأنا أرتجف، منتصرة
هناك في الطَرَفِ حيث تنتظرني.
* “أمورغوس” نيكوس غاتسوس و”سوناتا ضوء القمر” يانيس ريتسوس، هما مقطعان من مطوّلتين شعريتين.
العربي الجديد