هجرة المسيحيين/ محمود الزيباوي
اختُتمت القمة المسيحية المشرقية في دمشق بإصدار “نداء المريمية” الذي طالب فيه البطاركة المجتمع الدولي “بتحمل مسؤولياته في إيقاف الحروب”، و”إيجاد حلول سلمية وسياسية للنزاعات القائمة والعمل الجدي على إعادة النازحين والمهجرين إلى بيوتهم وممتلكاتهم وحماية حقوقهم كمواطنين”. في الواقع العملي للأمور، يجري عكس ما انطوت عليه هذه الدعوة، حيث تتدفق قوافل المهاجرين المسيحيين إلى أصقاع المعمورة بدعوة صريحة من الدول الأوروبية، الكبيرة منها والصغيرة.
من حلب، كتب الأب غسان ورد على مدونّته تعليقاً عاد من خلاله إلى زمن نزوح ابناء انطاكيا من مدينتهم عند دخول الجيش التركي لواء الاسكندرون بقرار من عصبة الأمم في العام 1939. نقل الكاتب عن احد المعمرين الانطاكيين شعراً بالعامية يقول: “اسمك حلو يا انطاكي/ بيشفي العليل هواكي/ واللي حرمني ياكي، يحرمه نور عيونو/ درب حلب وامشيتو كلّو سجر زيتوني/ حاجي تبكو وتنوحو، بكرا بيرجعوا يا عيوني/ درب حلب وامشيتو كلّو سجر عنابي/ حاجي تبكو وتنوحو، بكرا بيرجعو العزابي”. وأرفق الكاهن هذا النص ببيانات بأعداد اللاجئين من أبناء طائفة الروم الأرثوذكس المسجلين حصراً في سجلات دار المطرانية للعام 1939. تضم هذه القائمة 539 عائلة، منها 284 من مدينة انطاكيا، 192 من مدينة الاسكندرون، 39 من مدينة السويدية، 10 من قرية الصورية، 7 من فرق خان، و3 من ارسوز. نقل الأب غسان ورد هذه الأرقام، وأضاف: “البيانات مأخوذة من سجل مهجري لواء الاسكندرون المحفوظ في مطرانيتنا، علماً بأن البيانات مفصلة بالأسماء والتواريخ ومفهرسة بحسب الترتيب الذي نشرته، وهؤلاء وغيرهم كثيرون جداً هجروا واستقروا في جميع المدن السورية واللبنانية رفضاً للهوية التركية، وتمسكاً بهويتهم السورية تاركين بيوتهم وأعمالهم وأراضيهم. والآن أي درب سيسلكون؟ وهل يتحمل الانسان نكبة هجرتين خلال مئة عام؟ والهجرة تعني شرخ العائلة الواحدة وتجزيئها وتفتيتها، وتعني خسارة جهود الأجيال للبداية من نقطة الصفر في حين بدأ الاحفاد حصد ثمار تعب الاجداد”.
الهجرات المتلاحقة
كتب غسان ورد هذا التعليق بالتزامن مع انعقاد اجتماع كنسي في دير سيدة الجبل لمناقشة أوضاع المسيحيين السوريين، ومنهم مسيحيو حلب على الأخص، ويمكن القول إن كلماته تختزل بمرارة الواقع الذي وصلت إليه اليوم حال المسيحيين السوريين على اختلاف طوائفهم. في نيسان الماضي، شارك الرئيسان، الفرنسي فرنسوا هولاند والروسي فلاديمير بوتين، في مراسم إحياء الذكرى المئوية لمذابح الأرمن التي أقيمت في العاصمة الأرمينية يريفان. ووضعا زهرة أمام النصب التذكاري لضحايا المذبحة التي شهدها الأرمن على يد الأتراك في العام 1915. في ذلك الزمن، انتهجت “جمعية الاتحاد والترقي” سياسة “تتريك المكان”، وأدّت هذه السياسة إلى هلاك ثلاثمئة ألف مُرحَّل بين خريف 1915 وشتاء 1916. وصل الناجون إلى حلب، ومنها توزع بعضهم على دمشق وحماه وحمص، بينما استمر تهجير الأرمن إلى الأردن وحوران من جهة، وإلى الموصل وبغداد من جهة أخرى. اتخذت قيادة الحلفاء قراراً يقضي بإعادة المرحَّلين بشكل واسع في كانون الثاني 1919. أدى تدفق الأرمن على حلب إلى إثارة حفيظة الأوساط الإسلامية المتشددة، تبعه اندلاع مواجهات خطيرة في لواء اسكندرون مع السكان المسلمين المحليين، ونشوب حرب في حلب أوقفها تدخل الجيش البريطاني المباشر. أمل الأرمن المهجّرون ببناء موطن جديد لهم في كيليكيا، لكن فرنسا خذلتهم وضحّت بكيليكيا لتأمين سيطرتها على سوريا ولبنان. أدى تبدل السياسة الفرنسية إلى هجرة جماعية من كيليكيا في اتجاه سوريا ولبنان، ونظّم الفرنسيون هذه الهجرة، فعاد عشرات الألوف من الأرمن في غالبيتهم إلى المنفى في سوريا ولبنان، وذلك بعدما أعيد إيواؤهم قبل ثلاث سنوات في كيليكيا. في المقابل، أدت السياسة الكمالية إلى استمرار هجرة أرمن تركيا في اتجاه سوريا في العشرينات، ولم تتوقف هذه الحركة إلا في مطلع الثلاثينات.
في لبنان كما في سوريا، وجد الأرمن المهجّرون أنفسهم مع أرمن استقروا في هذه الأراضي منذ زمن طويل. كان أرمن لبنان “الأصليون” خاضعين لسلطة بطريرك القدس الأرمني، بينما كان المهجَّرون تابعين لكاثوليكوسية بيت كيليكيا الأكبر، وكان مقر هذه الكاثوليكوسية في مدينة سيس منذ أواخر القرن الثالث عشر، ثم انتقل بعد حوادث 1915 إلى حلب، ثم إلى القدس، وارتحل إلى أضنة بعد 1918 لفترة وجيزة. في نهاية العشرينات، تخلى بطريرك القدس عن سلطته في “المشرق”، وتنازل عن ممتلكاته في بيروت ودمشق واللاذقية لمصلحة الكاثوليكوس. في العام 1930، اتخذت “كاثوليكوسية بيت كيليكيا الأكبر” مقراً دائماً لها في انطلياس، وتزامن هذا القرار التاريخي مع إقامة مؤسسات أرمنية متعددة تنظم مختلف شؤون الحياة الداخلية للطائفة. في زمن الانتداب الفرنسي، تحول الأرمن مواطنين بعدما كانوا غرباء، وجاء هذا التحول نتيجة مادتين نص عليهما اتفاق معاهدة لوزان في تموز 1923، وهما المادة الثلاثون والمادة الثانية والثلاثون. شكّل “توطين” الأرمن “أمراً واقعاً” فرضه الانتداب، وفي النهاية، اندمج الأرمن من دون أن يتخلوا عن خصوصيتهم. تحولت مخيمات اللاجئين إلى أحياء حضرية في سوريا ولبنان ضمن “مشروع إسكان الأرمن النهائي” في هذين البلدين. بعد عقود من الزمن، سكن هذه الأحياء “مهجّرون” من الفلسطينيين والشيعة والأكراد، لكن الظروف الجيوسياسية المغايرة لم تؤدِّ إلى “عملية اندماج سلمي”. على العكس، أصبحت هذه الهجرات مصدر صراعات، وساهمت في اندلاع الحرب الداخلية التي عصفت في لبنان. إثر هذه الحرب الطويلة، ضعف ثقل الوجود المسيحي، وضعف معه ثقل الوجود الأرمني. عانى الأرمن من الحرب اللبنانية في الأمس القريب، وهم اليوم يعانون من الحرب السورية المتواصلة بضراوة منذ أربع سنوات. يتجلى ذلك بنوع خاص في حلب حيث ضعف الحضور الأرمني بشكل كبير، وبات اليوم مهدداً بالتلاشي.
بالتزامن مع إحياء الذكرى المئوية لمذابح الأرمن، أحيا الآشوريون “الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الآشورية”، وبدت حالهم اليوم أسوأ بما لا يُقاس من حال الأرمن. في القرن التاسع عشر، عانت هذه الجماعة من الجوار الكردي، وتعرضت للذبح على يد أمير بهتان الكردي بدر خان بك، فلجأ بطريركهم شمعون السابع عشر أبراهام إلى بلاد فارس في سهل أورميه. تجددت هذه المذابح خلال الحرب العالمية الأولى، حين تحالف الآشوريون مع الروس، وأعلن بطريركهم شمعون التاسع عشر بنيامين الثورة، فهاجمهم الأكراد والأتراك، وأرغموهم على التراجع والتقهقر. في منتصف العشرينات، ظهرت الحدود السياسية لكيان العراق الجيد، وبات الآشوريون الذين هُجِّروا من حكاري خارج الموطن الذي أقاموا فيه طويلاً وجعلوا منه موقعهم القومي والديني. قُسّمت بلاد ما ين النهرين، وباتت حكاري جزءاً من تركيا، وخسر الآشوريون حلمهم المستحيل بإنشاء وطن قومي في سهل نينوى. في العام 1933، حدث ما دُعي بـ”ثورة الآشوريين”، وتسببت هذه “الثورة” بمذابح في شمال البلاد قضى فيها نساء وأطفال وشيوخ. تشتت الآشوريون وتبنوا خطاباً قومياً ضيقاً ساهم في تهميشهم، فتحولوا إلى أقلية هزيلة مبعثرة لا تملك أيّ قوة فاعلة على الأرض. وجدت هذه الجماعة نفسها داخل الصراع الكردي العربي في زمن صدام حسين، ووقعت مرةً أخرى ضحية هذا الصراع بعد انهيار الدولة العراقية في السنوات الأخيرة، وها هي اليوم تشهد اندثارها االسريع أمام صمت العالم المطبق. في خريف العام الفائت، عمد تنظيم “داعش” إلى تهجير المسيحيين من الموصل وسنجار وسهل نينوى. اليوم، يتواصل هذا المسلسل مع إفراغ قرى الخابور من الآشوريين، وهم في مجملهم ناجون من مجزرة سميل التي نفذها الجيش العراقي في العام 1933 بقيادة الجنرال بكر صدقي. قضت هذه الحملة على الألوف من الآشوريين، وشرّدت البقية الباقية منهم، وها هي اليوم تعود بشكل آخر لتقضي على من تبقى من هذه البقية التعيسة في “الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الآشورية”.
في مهب الاقتلاع
عرف السريان حالاً مشابهة لحال الأرمن والآشوريين في تاريخهم المعاصر، والغالبية منهم باتت اليوم في دول أوروبية فتحت لهم أبواب الهجرة في العقود الأخيرة. في المقابل، تعيش الطوائف المسيحية “الكبيرة” في سوريا حالاً من الذعر، وتخشى أن يصيبها ما أصاب مسيحيي العراق الذين باتوا “في مهبّ الاقتلاع” بحسب تعبير وسائل الإعلام العالمية والمحلية. في العام 1994، صدر عن دار “فايار” الفرنسية كتاب من ألف صفحة عنوانه “حياة وموت مسيحيي الشرق”، حمل دعوة صريحة إلى “نقل” المسيحيين من أرضهم إلى الغرب. جاءت هذه “الدراسة” بتوقيع جان بيار فالونيي، وهو اسم مستعار لديبلوماسي فرنسي معروف لم يشأ أن يفصح عن هويته بشكل مباشر. في المقدمة التي وضعها، رأى المؤلف أن العالم العربي لا يزال يقوم على سياسات رجعية هي الأكثر تحجرا في العالم، وذلك في وقت اتجهت فيه آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا نحو تحول عميق، وأضاف: “قريبا، وحده العالم الإسلامي سيظل غريباً عن الحداثة، وحدها البلاد العربية وايران ستبقى آخر مربّع للديكتاتوريات”. بخفة مثيرة للسخرية، رأى الكاتب أن شمس الحضارة اليونانية أشرقت قديماً في العالم العربي الإسلامي بفضل مسيحيي الشرق وحدهم، وأن غروب هذه الحضارة جاء نتيجة لخنق المجتمعات المسيحية في هذا العالم. وقال في ختام مقدمته: “مهما كانت صعوبة تقبّل الأمر، علينا من دون أي شك أن نهنئ انفسنا بمجيء مسيحيي الشرق إلى العالم الغربي وإثرائهم هذا العالم بطاقاتهم العظيمة الشأن، بدلاً من أن يستمروا في حياة تافهة ومهدّدة على أرضهم”. أثار هذا الطرح حفيظة الكثيرين، وأعلن عدد مهم من كبار المسؤولين في الشؤون الكنسية رفضهم له. بعد أكثر من عشرين سنة، يبدو هذا الطرح “منطقيا” في زمن اعلان وفاة الخطاب الوطني الجامع وصعود الهويات الدينية الإسلامية الإقصائية، ونخال أن الدول الأوروبية قد تبنّته أخيراً بشكل أو بآخر، على ما تشهد الحوادث الأخيرة.
في آذار الماضي، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أنها منحت ألفاً وخمسمئة تأشيرة لجوء لمسيحيين من الشرق مذ أعربت الحكومة عن عزمها على تشجيع استقبال أفراد من هذه “الأقليات المضطهدة” في نهاية تموز، وأكدت وصول “الف شخص حتى الآن” إلى فرنسا. في احتفال اقيم في حدائق الوزارة حضره نحو مئتي مسيحي وصلوا من العراق وسوريا، خاطب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المدعوين وقال: “أود أن أرحب باندماجكم التام، هذه الرغبة في أن تكونوا هنا في فرنسا، وأن تقدموا مواهبكم وثقافتكم حتى تكونوا مفيدين لفرنسا”. وقال وزير الداخلية برنار كازنوف في هذه المناسبة: “أنتم جميعا على الرحب والسعة”، ورأى أن “المسيحيين هم بين الضحايا الأوائل” لتنظيم الدولة الإسلامية. في آذار، انضمت بولونيا إلى الدول الأوروبية التي تفتح أبوابها لاستقبال مسيحيي الشرق، واعلنت رئيسة حكومتها ايفا كوباتش ان بلادها ستستقبل “ستين عائلة من اللاجئين السوريين المسيحيين”، وأوضحت بعد اجتماع لحكومتها ان “القرار واضح، سنستقبل في البداية ستين عائلة وعلينا اعداد برنامج زمني دقيق للتحرك”. واضافت: “اليوم المسيحيون الذين يتعرضون لاضطهاد وحشي في سوريا، يستحقون أن يتحرك بلد مسيحي هو بولونيا بسرعة ويقدم إليهم المساعدة”. بحسب وكالات الأنباء، اتخذت الحكومة البولونية هذا القرار بعدما اقترحت منظمة بولونية غير حكومية تسمى “ايستيرا” على الحكومة استقبال 300 عائلة سورية مسيحية، اي نحو 1500 شخص، موضحة ان كلفة سفرهم واقامتهم يمكن ان تغطيها منظمات للعمل الخيري ومؤسسات وكنائس. كذلك، طلبت كوباتش دعماً من المجالس المحلية التي يمكنها استقبال هؤلاء اللاجئين، وقالت: “نريد ان يجد هؤلاء الاشخاص شروط حياة لائقة وان يكون لديهم امكان تعلم اللغة البولونيية والعناية بأبنائهم”. يجدر القول هنا أن بولونيا، مثل معظم دول منطقتها، عارضت النظام الذي اقترحته المفوضية الأوروبية لتوزيع حصص للاجئين على الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي في منتصف أيار، غير أنها أعلنت استعدادها لاستقبال لاجئين على أساس طوعي.
تحت عنوان “في وداع الأقليات”، كتب غسان شربل أخيراً في صحيفة “الحياة”: “أيقظت الإطلالة المدوية لـداعش وأشباهه ذعر الأقليات. ضاعف الهجوم الإيراني في الإقليم حدة النزاع السنّي – الشيعي. احتمت الأقليات الكبرى بأسلحتها وتحالفاتها واندفعت في مجازفات كبرى مضطرة حيناً ومختارة أحياناً. وضع العرب السنّة في العراق ليس سهلاً على الإطلاق. صدام “حزب الله” اللبناني بالكتلة السنية في سوريا ليس بسيطاً على الإطلاق. أما الأقليات التي تعوزها الأنياب والعمق الجغرافي والرصيد السكاني فتبدو مرشحة لخسارات قاتلة. ومن يدري فقد نكون في موسم وداع الأقليات. الأقليات الكبيرة القادرة ستهاجر إلى أقاليمها والأقليات الصغيرة العاجزة ستجهز جوازات السفر استعداداً لعبور البحر. سقوط العروبة الحضارية الرحبة نكبة للأكثريات والأقليات معاً. شيوع التطرف المذهبي يعزز النكبة لأنه ينسف حلم اللقاء تحت مظلة الدولة. تتضاعف نكبة الأقليات الصغيرة حين تسلس قيادها لسحرة صغار أصابتهم لوثة ادعاء الأدوار التاريخية ولشرهين مقامرين يصرّون على احتكار الوليمة حتى ولو سبحوا في دم من يزعمون إنقاذهم”.
في مناسبة الذكرى السنوية الأولى لسيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية” على الموصل، قال المطران بطرس موشي رئيس أساقفة السريان الكاثوليك في الموصل: “على الغرب أن يفتح أبوابه للمسيحيين وغيرهم من الأقليات من طالبي اللجوء، إن كان غير قادر على مضاعفة جهوده في مواجهة الدولة الإسلامية، ومع ذلك، فإننا نفضِّل أن نبقى في العراق، ونكون محميين هنا”. وأضاف: “أشعر وكأني أحلم، أو كأني في حالة سكر. لا أستطيع أن أفهم ما يدور من حولي. إنه كابوس”.
النهار