هل اليسار السوري مرشح لانتفاضة في قواعده ؟
مازن كم الماز
ما هو دور اليسار السوري القائم في الحياة السياسية للمجتمع السوري ؟ قد يبدو هذا السؤال غير ذي معنى إذا ما عرفنا أنه لم تكن توجد حياة سياسية عامة في سوريا قبل 18 آذار الماضي , كانت هناك سلطة أممت المجتمع لصالحها , و معارضة توجد في هامش ضيق جدا أو يمكن القول أنها كانت موجودة بالكاد , و كان اليسار السوري بالتالي ككل المجتمع السوري , يوجد في أحد هذين الحيزين المتاحين , إما في مؤسسات السلطة أو المعارضة أو بينهما لكن في حالة أقرب للسبات السريري كما كان حال المجتمع عموما , كانت النخبة المسيسة و المثقفة تعيش في معازل حقيقية مغلقة بعيدا عن الشارع السوري كشرط أساسي لممارسة السياسة في دولة تقودها أجهزة أمن مدججة بسلطة مطلقة و أقبية و سجون و سخرت لها إمكانيات الدولة برمتها لتمارس ما تؤمر به من استئصال لأي فعل سياسي حقيقي في المجتمع .. أمضى اليسار السوري العقود الأربعة الماضية ضمن مكانه المخصص له بدقة من النظام , حتى بالنسبة لليساريين خارج الجبهة , و بقيت قيادات هذا اليسار تمارس في الظل الذي تركت فيه حواراتها الإيديولوجية البحتة بعيدا عن أي حوار حقيقي مع المجتمع أو مع النظام , الأول كان ممنوعا من التنفس و الثاني لم يؤمن يوما بشيء اسمه حوار أو يسمح به بأي شكل من الأشكال , كان الدافع الأساسي بالنسبة للنظام لترك هذا الهامش في الظل لليسار السوري و لضمه قياداته إلى مؤسساته الشكلية البيروقراطية و المحافظة على “مشاركتها” حتى على المستوى القيادي المتوسط في هذه المؤسسات ( مجالس شعب و إدارة محلية و حكومات و نقابات كانت عبارة عن مجرد ديكور لمؤسسة السلطة الحقيقية الأمنية العسكرية ) هو وجود قواعد يسارية بحاجة لقيادة مقبولة من النظام أو على الأقل ليست على خلاف جذري أو حقيقي معه , و كان هذا سهل بالنسبة لهذه القيادات لأن النظام خلق و حافظ على أسطورة المقاومة و الصمود و التصدي التي اضطر أخيرا إلى اختزلها إلى ممانعة تقتصر على استضافة حماس و دعم حزب الله في إطار الحفاظ على أوراق لعب مؤثرة تسمح له بهامش أوسع للدفاع عن نفسه , هذه الأسطورة شكلت ما زعمت هذه القيادات اليسارية أنها محور و مرتكز علاقتها بالنظام , مبررة كل شيء يمارسه النظام و كل الأزمات التي كان يخلقها بهذه الأسطورة , بقيت هذه القيادات في علاقتها بالنظام سلبية تماما تقتصر على المديح و بعض “النقد” الذي يدعو النظام , “حرصا على ممانعته” و أحيانا على “الوحدة الوطنية” ( الوحدة في ظل النظام طبعا و تحت رحمة جلاديه ) لتغيير بعض السياسات خاصة السياسات النيوليبرالية لكن التي لم تعتبرها هذه القيادات أبدا نتيجة لبنية النظام الطبقية و علاقته الإلغائية بالمجتمع , كانت هذه القيادات تحاول فقط أن تظهر أنها على “يسار” النظام لا أكثر … طبعا اليسار أيضا مؤسسة فكرية إلى جانب أنه مؤسسة سياسية و لذلك فقد كان من السهل دائما إشغال القواعد بنقاشات فكرية تصور على أنها “بالغة الأهمية” و مركزية , بينما اعتبر كل ما يخص السوريين العاديين ذا أهمية ثانوية , في مقابل القضايا “المصيرية” الكبرى التي كانت القيادات اليسارية تشغل نفسها و قواعدها بها حتى قمة رأسها , خاصة تلك المواضيع التي تتعلق بالمبرر الفكري و السياسي لوجودها , طالما أنها لم تعد تملك أي مبرر اجتماعي لوجودها و استمرارها , بهذا المبرر النظري و السياسي أقصد محاولة نقض و دحض أية مقاربة نقدية لحالة اليسار العالمي و العربي و السوري قبل انهيار الاتحاد السوفيتي لأن هذه الحالة استمرت ذاتها تقريبا بعد الانهيار بعد إضافات جديدة قديمة وضعت لتحاول أن تخفي أثر ذلك الانهيار على القواعد , بينما كانت هذه القيادات و منظماتها تعيش انهيارا آخر أعمق نرى نتائجه اليوم على صعيد علاقتها بالجماهير السورية تشبه تماما أزمة تراجع القاعدة الاجتاماعية للنظام السوري منذ الثمانينيات , يجب في نفس الوقت أن نقول للإنصاف أن أي محاولة للخروج على النص الرسمي الذي وضعه النظام و فرضه على الجميع كان عقابها شديدا , و كانت تبدو عمليا غير ذات جدوى أو حتى غير ممكنة أساسا , لكن الحال تغير تماما منذ 18 آذار الماضي , اقتحمت أعداد أكبر فأكبر من الجماهير فجأة مجال الفعل السياسي , حتى من ينتقد الاحتجاجات أو يرفضها بدأ يمارس الكلام ( و حتى النقد ) بصوت مرتفع و أصبح ترديد عبارات و مسلمات الخطاب الرسمي للنظام أكثر صعوبة حتى بين مادحيه أنفسهم .. لكن جزءا محدودا فقط من اليسار السوري شارك في هذه الاحتجاجات , يقع هذا الجزء على يسار تجمع اليسار الماركسي أو أنه يشكل الجزء الأكثر راديكالية من قوى هذا التجمع , هذه المشاركة لم تمر دون عقاب أيضا من النظام لكنه بقي أقل بكثير من العقاب الذي أوقعته أجهزة أمن النظام بالجماهير المنتفضة , بينما كانت النور و قاسيون و صوت الشعب تعيد ترديد خطاب النظام و تبرر بدرجات متفاوتة ممارسات أجهزته و جرائمها , لكن في نهاية الأمر بقيت الكتلة الأكبر من اليساريين سواء المنضوين في الفصائل الموجودة أم خارجها , مثل غالبية السوريين حتى اليوم , بقيت “صامتة” , مترقبة و قلقة في نفس الوقت , تريد الخلاص من النظام و تخشى الخلاص منه في نفس الوقت , تريد الحرية و تخشاها و تخشى خاصة الثمن الباهظ المتوقع للحصول عليها .. طبعا يمكن تفسير موقف الحزبين الشيوعيين في الجبهة بقوة العلاقة التي نشأت بينهما و خاصة بين قيادتهما و بين النظام و أن هذه القيادات قد أصبحت من زمن ليس بالقصير مندمجة تماما في بنية النظام , لكن هناك أيضا أسبابا أخرى , ففي الواقع أن قيادات الحزبين “المتحالفين” مع النظام يشبهان النظام نفسه أو يمارسان مع قواعدهما نفس الدور الذي يمارسه النظام مع المجتمع و الجماهير السورية و يرددان نفس خطاب النظام السياسي كمصدر لشرعيتهما أيضا تماما كما يحاول النظام استخدام ذات المبررات و الخطاب لتثبيت شرعية ما له , قيادة فصيل النور مثلا كانت قد وعدت قواعدها “بالإصلاح” منذ انشقاقها عن بكداش , لكن تطبيق هذه الوعود بقي بطيئا و محدودا تماما كمصير وعود الإصلاح التي أطلقها الرئيس السوري منذ تولى الرئاسة في عام 2000 و التي تجددت دون جدوى عامي 2005 و 2008 , أما جناح بكداش من جهته فإنه يستمد “البلاغة الثورية” لخطابه السياسي من الخطاب الستاليني الأم الذي يستخدمه النظام أيضا ليقدم نفسه على أنه نظام مقاوم , و لذات السبب الذي يستخدمه إعلام النظام ليجرم و يخون مطلب الحرية اليوم في سوريا , جرم البكداشيون أيضا حرية شعوب أوروبا الشرقية و الاتحاد السوفيتي التي كانت البيروقراطية الحزبية الأمنية و العسكرية تقمعها بكل وحشية كضرورة مزعومة في المعركة مع الإمبريالية , هذا هو نفس الخطاب الذي سمح لبكداش بالبقاء في موقع الحاكم المطلق للحزب الشيوعي السوري لعشرات السنين و أن يستخدم تهم التخوين و العمالة أيضا ضد أفواج بعد أفواج من الشيوعيين الذين لم يروقوا له أو لم يقبلوا بالخضوع الكامل و غير المشروط لسلطته المطلقة على الحزب … إذا عدنا لبنية الفصائل اليسارية السورية القائمة نجد في اليسار السوري جيلا متوسط و متقدم في العمر , مارس السياسة وفق قواعد هذه القيادات اليسارية و التي هي في الأصل قواعد وضعها النظام , حتى أن كثيرا منهم عملوا ضمن المؤسسات البيروقراطية الشكلية التابعة للنظام , حيث تعودوا على منطق الخضوع لإرادة النظام , لكن يوجد في هذه القواعد أيضا شباب يشبهون إلى حد كبير سائر الشباب السوري الذي كان هو بالتحديد من فجر الاحتجاجات الأخيرة , و هناك أيضا يساريون غادروا البنى التنظيمية القائمة , لكنهم بقوا إلى هذا الحد أو ذاك يساريين في قناعاتهم , و من الطبيعي أن يعود هؤلاء إلى العمل السياسي كيساريين , خاصة عندما تضرب ثورة عاتية المجتمع من حولهم , و ميزة هؤلاء هذه المرة أنهم سيكونون أكثر حرية في التفكير غير النمطي و في التعبير عن آرائهم مما لو كانوا خاضعين تنظيميا لسيطرة “القيادات اليسارية” المتحالفة مع النظام , أخيرا هناك الشباب الذي لم يتنظم من قبل في الأحزاب اليسارية و الشيوعية القائمة , الذي يصبح راديكاليا يوما بعد يوم و الذي قد يقترب بعض منه من الأفكار اليسارية أو يجد فيها تعبير عن مطامحه و آماله و الذي سيفعل ذلك خارج تأثير هذه الأحزاب و الفصائل القائمة و “قياداتها” دون أي شك , هذه القوى الأخيرة قادرة في الحقيقة على تأسيس يسار سوري جديد , و هي ذات مصلحة جوهرية في ذلك , عدا عن أن وجود مثل هذا اليسار الجديد يعبر أيضا عن مصلحة حقيقية للجماهير السورية الكادحة أيضا لكن هذه المرة كسلاح تستخدمه في معاركها مع من يستغلها و يقمعها … قد يكون هذا كله صحيحا لكن إقامة هذا اليسار الجديد في الواقع , مثله مثل تقدم الانتفاضة السورية ليس بيد أحد و لا يمكن أن يكون فقط نتيجة رغبة ذاتية عند بعض اليساريين السوريين رغم أهمية هذا العامل الذاتي طبعا , إنه كما في الأوقات الثورية , يعبر فقط عن إرادة و وعي القوى الاجتماعية الموجودة بالفعل التي ستحدد في نهاية المطاف ما إذا كان هذا اليسار الجديد سيظهر بالفعل أم سيجري إجهاض عوامل النهوض اليساري الثوري جنبا إلى جنب مع النهوض الجماهيري , يمكن القول بكلمة أنه إذا كان استمرار الحال كما هو عليه اليوم في سوريا يصبح أكثر صعوبة و لا يمكن إلا من خلال قمع محاولة تغيير هذا الواقع من قبل الشارع السوري فإن استمرار اليسار السوري على حاله يصبح أيضا أصعب فأصعب , لكن عندما يتعلق الموضوع بحركة تاريخية اجتماعية هائلة أو عميقة الأثر فإن أحدا لا يملك الإجابة الأخيرة على كل الأسئلة , فقط القوى الاجتماعية التي تتحرك اليوم لتبحث عن هويتها و وعيها الطبقي و الاجتماعي و السياسي و الفكري , مع الشباب و الشارع السوري , وحدها هي التي تستيطع أن تقدم لنا هذه الإجابات النهائية في الأيام القادمة عن مستقبلنا و مستقبل البلد و اليسار السوري ضمنا ……