هل انتهى دور الغالبية الصامتة في سوريا؟
يحيى الأوس
مع إقفال الباب على الحل الداخلي للازمة السورية ولو موقتاً، يصبح التدويل هو المسار الإجباري لهذه الأزمة دون أن يعني ذلك حلا قريباً.
مع هذا الاستعصاء تفقد مكونات الأزمة في الداخل قدرتها على لعب دور مؤثر في وضع حد لها، ومن هذه المكونات ما يطلق عليه الغالبية الصامتة.
هذه الغالبية مرت بأطوار مختلفة أفضت بها أخيرا إلى التهميش، بعد أن كان يعول عليها أول الأمر أن تحدث انعطافا في مسار الأزمة لو أنها انخرطت في مجريات ما يدور على الأرض.
ويمكن القول اليوم إن هذه الغالبية قد خرجت عن صمتها ولكن بعد فوات الأوان فلم تتمكن من الانتقال إلى دائرة التأثير، فمن صمت من مبدأ الحياد نطق أخيرا من أجل المطالبة بالخدمات أو الأمن المفقود. ومن لا يزال على صمته حتى اليوم يبدو كأنه خارج الزمان والمكان. إذ لا مكان للصمت بعد اليوم فإما مؤيد وإما معارض، وقلة قليلة لا تزال تقبع في خانة اللاموقف بعد انقضاء عامين على اندلاع الثورة في سوريا. لكن من كان يعتقد أن انضمام هذه الفئة – التي تشكل الأقليات ابرز مكوناتها- للثورة كان لينهي الصراع، أدرك انه كان مخطئا بعد رؤية طائرات “الميغ” تقصف مناطق في قلب العاصمة دمشق، في رسالة مفادها بأنه لم يكن للغالبية الصامتة أن تنهي الصراع حتى ولو انتفضت باكراً.
لم تكن هذه الغالبية في يد أي من الطرفين بشكل حاسم إلا أن جغرافيا المناطق الثائرة على النظام كانت دليلا واضحا على انحيازها لإرادة الثورة رغم أن كلا منهما – النظام والمعارضة- كان يدعي بأنها تقف إلى جانبه، ولو كانت منذ البداية إلى جانب احدهما عملياً لتغيرت قواعد اللعبة.
وإلى اليوم لا يزال النظام يتحدث باسمها وينصّب نفسه حارسا ومدافعا عنها في وجه من يسميهم جماعات مسلحة وإرهابيين، لكن هذا الإدعاء لم يمكّنه من استمالتها وراء المؤامرة التي صدع رأس الدنيا بها، ولم يثنه عن السير وراء الحل العسكري وسياسة التدمير بصفتهما مطلباً لغلاة النظام. هذه السياسة لم تجلب الأمن المفقود لمن كانوا يسمون غالبية صامتة و لم تفلح في شد هذه الفئة نحو حظيرته. ومع انتهاء العام الثاني من عمر الثورة بات واضحا أن هذا النظام ليس عاجزا عن استرداد الأمن فحسب، بل هو عاجز عن إزالة مخاوف هذه الفئة رغم كل القوة العسكرية التي يمتلكها.
المعارضة بدورها فشلت في دفع هذه الفئة لاتخاذ قرار الخروج على النظام أو النزول إلى الشارع، وكما النظام فقد ظلت تدعي تمثيلها أيضاً، دون أن تتمكن من النفاذ إلى اقتناعاتها. فقد فشلت في تصدير عهود تطمين حقيقية تنقلها من خانة اللافعل إلى خانة الفعل، وعندما حاولت تدارك ذلك بالغت في طلب ودها إلى درجة زادت من ارتيابها ونفورها. ويتقاسم الطرفان حالة الفشل والعجز عن تقديم تصور معقول ومطمئن للنموذج الذي سوف تستقر عليه الحال السورية بعد انقضاء الأزمة، مما ترك هؤلاء في حال ضبابية ساهمت في دفعهم للمزيد من الانكفاء والسلبية.
ومع تغير معطيات الصراع وجنوحه نحو الصدام العسكري الدموي، لم يعد من الممكن اعتبار الغالبية الصامتة “بيضة القبّان” فقد أخرجها الوضع الناشئ من دائرة القدرة على لعب أي دور محتمل إلى دائرة المتأثر، فباتت أكثر قلقاً وتردداً من أي فترة سابقة، فالتظاهرات السلمية تراجعت لحساب نزاعات مسلحة انخرط فيها آلاف المنشقين عن الجيش النظامي و المواطنين الذين حملوا السلاح، كما ان جهود الساعين لأسلمة الثورة وجرها نحو مستنقع التطرف غذت من مخاوفهم وعطلت امكان انخراط هذه الكتلة في أعمال الثورة، وكلما اتجهت الثورة صوب الخيارات التي يتبناها أشخاص متشددون كلما ازداد توجس هذه الكتلة وازداد اغترابها عن الثورة.
لا تميل الغالبية في العموم إلى العنف بل ترفضه، وهي منذ شهور تدبر أمور حياتها بعيدا عن الحكومة والمعارضة، وهذا يقلص من إمكان حدوث أي تدخل حاسم من قبلها بعد اليوم، خاصة أن الأزمة السورية تمضي في منح المتطرفين من كلا الجانبين موقع الصدارة في إدارة الصراع بينهما، فمتطرفو النظام يمضون في الحل الدموي غير آبهين بدماء السوريين، ومتشددو المعارضة يجدون أنفسهم أمام طريق واحد لا عودة عنه وهو المضي في الثورة مهما كلف الأمر.