هل حان أوان رحيل بشار الأسد؟/ محمد الجوادي
لا شك في أن ضربة دونالد ترمب لمطار الشعيرات أيقظت العالم على استعادة الأمل في الخلاص من بشار الأسد، ومن عائلة الأسد، ومن سطوة العلويين، ومن نفوذ إيران، ومن غطرسة روسيا؛ لكن الأقلام المدربة والشخصيات المفوهة سارعت كما هي عادة النظم الشمولية العتيقة إلى توهين هذا الأمل توهينا وصل إلى توظيف الاستخدام المحترف لفكرة المتتابعات المنطقية، انتهاء إلى تصعيب تحقق الأمل إلى حد الاستحالة.
وتفاوتت حظوظ المستهدفات الخمسة التي ذكرناها من هذا القصف الإعلامي المكثف الذي استكان بالسعادة والطمأنينة إلى فكرة استطالة الصراع واستحالة إنهائه، بعد أكثر من ست سنوات من الكفاح الشعبي الصادق الذي لم يتوان عن التضحية والفداء في أحلك اللحظات.
وربما كان من واجبنا تجاه أنفسنا أن نتدبر الأسباب التي أدت إلى منح الأسد هذه الأعمار المتتالية، ولا نقول فرص الإنقاذ الناجعة.
يتمثل السبب الأول في عناد بشار نفسه وقدرته على إقناع نفسه بالعناد؛ ومع أن ميراثه لهذه السمة من والده ظاهر للعيان فإن هناك عوامل موضوعية وتاريخية عديدة دفعت ببشار إلى هذا العناد:
منها مثلا غياب الملاذ الآمن في ظل كثرة العداوات المترسخة مع من كانوا بمثابة الحلفاء الطبيعيين له.
ومنها أيضا غياب الأفق المشجع على أي موقع بديل في ظل المزايا الخيالية بل الخرافية، التي يتمتع بها نظام تمترس بأقصى ما يمكن لنظام أن يتمترس به من سياسات القهر والسيطرة، مستفيدا من خلاصات تجارب جمال عبد الناصر ومعمر القذافي وصدام حسين، إضافة إلى تجارب الأب المؤسس نفسه (حافظ الأسد).
ويتمثل السبب الثاني في نمو عناد الأسد الابن في إحساس بشار الطفولي بالانتصار الحاسم، حين كانت الممارسات والتقاليد الدبلوماسية تمنحه في الظاهر ما يفهمه العقل السياسي الطفولي على أنه انتصارات حاسمة أو مؤكدة.
بينما هي لا تعدو أن تكون ذهولا عميقا انتاب الكثيرين من محاوريه (أو الموفدين إليه لإنقاذه) من أن يكون هناك من لا يزال يفكر بطريقة بشار في اعتبار نفسه مركز الكون (السوري)، ومحط آمال ذلك الشعب المحب له الموّله به الذي تنهال أسلحته عليه لقتله واستئصاله، تعبيرا عن الامتنان الواجب تجاه إخلاص الشعب لقائده فيما يحققه من نتائج باهرة في الاستفتاء عليه رئيسا بالإجماع، ومع هذا فإنه هو نفسه في المقطع الشهير يشير إلى مئات الألوف من المعارضين!!
وفي هذا الصدد فإنه يمكن لأي قارئ صبور أن يتأمل في قدر المغالطات والتشوهات والافتراءات التي يحفل بها خطاب بشار السياسي، في محاورته لوفد الجامعة العربية الذي ضم رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم آل ثاني، والأمين العام السابق للجامعة العربية نبيل العربي، قبل أن تحل بالأخير لعنة التحول إلى الانتماء للثورة المضادة عقب وقوع الانقلاب العسكري المصري.
ففي هذا الحوار -الذي نشره إعلامي بارز في كتاب ضخم- كل الدلائل الطبية على الأنا المخدوعة بالتضخم، والعقل المبتلى بالتصلب، والقلب المليء بالحقد، وكلها -كما نعلم- عوامل مشجعة على نشأة العناد والتشبث به، واعتباره ثباتا على المبدأ وإيمانا لا يقبل إلا الحفاظ عليه.
السبب الثالث لانتعاش العناد في أداء بشار هو ضخامة مساحة الاختيار التي استحوذ عليها باراك أوباما لنفسه فيما يخص الملف السوري، ثم في القرار الذي نشأ في هذه المساحة وأثره المباشر وغير المباشر؛ فعلى حين كانت الظواهر والجواهر توحي بضرورة تخلى أميركا عن بشار فإن أوباما وقف وحده ضد هذا التوجه.
وقد ناقشنا الأسباب الكثيرة التي دفعت أوباما إلى هذا الاختيار غير المعهود في القرارات الرئيسية الأميركية، وهي أسباب عديدة كفيلة بتسويغ فهم موقفه الانكماشي الجامد الذي صب في مصلحة زعيم روسي كان قد بدأ يعاني من مظاهر أفول الزعامة، فإذا بباراك أوباما يهديها له على طبقين متتابعين: طبق أوكراني فاتح للشهية، ثم طبق روسي كفيل بالوصول إلى حد التخمة.
وبلغة كرة القدم فإن فلاديمير بوتين حقق الانتصار بسبب توقف أوباما عن التهديف والهجوم والمناورة والكر، وميله إلى التراخي في أداء المباراة في الملعب مع اعتماده على جون كيري كحارس مرمى ضعيف اللياقة ومتدهور الأداء، بل ومضطرب الميول السياسية.
لكن انتصار بوتين جاء لصالح بشار بأكثر مما جاء لصالح بوتين بسبب نتيجة قرعة توزيع المجموعات المتنافسة؛ مما نشأ عنه صعود فريق ضعيف هو بشار إلى مكانة متقدمة لم يكن أحد يتوقعها له في مسار تصفيات الأدوار المتتالية، قبل الوصول إلى الدور نصف النهائي فالنهائي.
ومع كل هذه الديناميات الكفيلة بتعميق العناد والحاجة إليه؛ كانت هناك مجموعة من الأسباب الثانوية التي كفلت لبشار مناخا مشجعا على التمسك بالعناد، نخص سبعة منها بالذكر:أصبح عناد بشار مثلا أعلى للانقلاب المصري وللتمرد الحفتري في ليبيا وللاحتلال الحوثي في اليمن، بكل ما يقتضيه المثل الأعلى من الثبات والصمود وضرب المثل في تحقيق السطوة وإطالة البقاء.
مدت الأيادي الإعلامية المحترفة المعروفة بتعدد الولاءات يدها لبشار بالعون مقابل المال، مدعمة فكرته التي تسيطر على كل شمولي وهي أن كل الذمم قابلة للشراء.
بدأت مؤسسات الربح والخسارة في المجتمع الغربي تتعامل مع بشار على أنه منجم لا بد من أن تسارع إليه ببعض المتطلبات لتغترف اغترافا من الأموال المتاحة لديه.
اندفعت أجهزة أمن عربية للإفادة من المكتسبات المخابراتية السورية التي أجادت تسويق نفسها، في ظل انتعاش معروف للهواجس المتخوفة على الدوام من كل حراك سياسي شعبي أو مغامرة عسكرية مغذاة أميركيا أو روسيا.
صب وجود تنظيم الدولة الإسلامية في مصلحة بشار؛ وليس من الكياسة أن يضيع الوقت في تحري السبب بينما النتائج قاطعة الدلالة.
دفعت حماقات كردية في تركيا والعراق مع بعض التخطيطات السياسية الغربية التقليدية بالقضية الكردية لتكون على غير مصلحتها وداعمة لبقاء بشار.
وأخيرا فإن تنامي بعض الحقد الغربي على نجاحات رجب طيب أردوغان قفز ليُحْدث أثرا بعيد المدى في موازين الصراع، وهو أثر يمكن وصفه بلغة الفيزياء بأنه جاء ليغير قيم الحدود الثابتة والمتغيرة في المعادلات كلها.
هكذا جاء عداء أردوغان والرغبة في تعويقه (وهو العامل الفرعي السابع) ليطغى على منظومة العقل الأميركي والغربي في تعامله مع هذه الحالة، التي انتقلت من أزمة إقليمية بدأت وهي في غاية المحدودية ثم تعاظم شررها لتصوغ حربا عالمية ثالثة، انتهت تقريبا بلجوء قادة أوروبا العقلانيين إلى الفاتيكانفي محاولة أخيرة لتوظيف الميتافيزيقا لصالحهم في المواجهة الواسعة مع الإسلام والمسلمين.
وهي المواجهة الحادة التي جلبوها لأنفسهم بموقفهم المتخاذل من قسوة اللاديمقراطية على الديمقراطية في سوريا ومصر وليبيا، تحت دعوى زائفة وملفقة و”مدهلزة” من الانتصار لقيم المسيحية على قيم الإسلام، رافعين الشعار المقولب والمنمط والمنمق الخاص بمكافحة الإرهاب.
جاءت ضربة ترمب في وقتها المطلوب لتكشف الغطاء عن كثير من الأكاذيب الجاهزة “المعولبة”، التي صادفت رواجا أتاح لباراك أوباما أن يخرج من البيت الأبيض بيدين لم ترتديا أبدا قفازات الجرّاح ولو على سبيل إنقاذ الإنسانية المعذبة.
وبضربة ترمب عادت الولايات المتحدة الأميركية إلى ميدان تعمدت أن تغيب عنه لتمارس سياسة الحرب القذرة، من خلال الانقلابات العسكرية الناجحة أو الفاشلة على حد سواء، وليس معنى هذا أنها ستكف عن حروب الدهاليز، بل معناه أنها لن تكتفي بها ولن تستعيض بها عن المواجهة المفتوحة للفكر في ميدان الواقع.
يتحدث المحللون عن صعود الصورة الإعلامية والذهنية للرئيس، وعن صعود الدولار، لكن الأهم في نظري هو أن عشرات ومئات من الأميركيين الذين كانوا مُقْدمين على الإدمان (بسبب ما يرونه في الحياة من فظائع التناقض السياسي المؤلم) توقفوا عن إقدامهم على الإدمان، وبدؤوا يفكرون في أن الواقع لا يفرضه البلطجية ولا المجرمون.
مع هذا بقي هاجس الأميركان الذي يغذيه الصهاينة بأن الخلاص من بشار ينبغي ألا يصب في مصلحة تركيا بأية صورة من الصور، وهكذا فإن كل اجتماع إستراتيجي في الفترة القادمة سيكون معنيا -في المقام الأول- بألا تستفيد تركيا من إزاحة بشار ولا من بيع ما يتخلف عنه من بقايا.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017