هل ما يرتكب في سوريا “جريمة إبادة”؟
محمود المبارك
يتساءل البعض هل ترقى الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري تجاه شعبه منذ اندلاع الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011، إلى “جريمة إبادة”، حيث هي أخطر جريمة في القانون الدولي على الإطلاق!
فجريمة الإبادة تعد بحق “أم الجرائم” في القانون الدولي الإنساني، وهي من الأسباب الرئيسة التي لأجلها وجدت المحكمة الجنائية الدولية.
ونظرا لفداحة وخطورة هذه الجريمة، أعطت المادة 6 من نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية الولاية القضائية في النظر في جرائم الإبادة الجماعية.
تاريخ مصطلح الإبادة الجماعية
رغم أن هذا المصطلح مشتق من الكلمة اليونانية genos التي تعني الجنس أو القبيلة، واللاحقة اللاتينية cide التي تعني القتل، فإن استخدامه القانوني الدولي لم يعرف قبل الحرب العالمية الثانية.
وقد وردت هذه التهمة ضمن لائحة الاتهامات في محاكمة كبار العسكريين في النظام الألماني السابق أمام محاكم نورمبرغ، الذين اتهموا بحرق وقتل اليهود بقصد إفنائهم.
وتعد جرائم الإبادة التي حدثت في ألمانيا أشهر جرائم الإبادة في العصر الحديث، وتبعا لذلك، اعتادت المنظمات الدولية الإنسانية -والغربية منها خاصة- إقامة مناسبات خاصة لهذه الذكرى المأساوية، عادة يحضرها الأمين العام للمنظمة الدولية الأم المسؤولة عن حفظ الأمن والسلم العالميين، للتأكيد على خطورة هذه الجريمة، باعتبارها أخطر الجرائم ضد البشرية وأبشعها.
وواقع الأمر أن جرائم الإبادة لم تتوقف بعد الحرب العالمية الثانية في عالم الإنسان “المتحضر”! حيث لا تزال الدول العظمى وربيباتها تتسابق على ارتكاب جرائم إبادة يخجل التاريخ من ذكرها.
ففي فلسطين لا تزال مدللة العالم الغربي، ترتكب المجازر تلو المجازر بدءا بدير ياسين إلى آخر محطة لها في غزة قبل عامين، دون حسيب ولا رقيب.
وأحسب أن لو اكترثت المحاكم الدولية بالجرائم الإسرائيلية وحدها لوجدت في ذلك ما يشغلها بقية عمرها.
وفي أفغانستان حيث قتل قرابة مليون إنسان في جرائم لا يمكن إلا أن توصف بجرائم إبادة من قبل القوات الأميركية وقوات الناتو في تلك البلاد، في عالم يسد عينيه ويصم أذنيه عما يرى ويسمع! تماما كما رفض العالم “الحر” الاستماع إلى صيحات الأبرياء في العراق الذين قتلت القوات الأميركية والبريطانية منهم ما يزيد على مليوني إنسان، في حدث أحسب أنه حري بالتدريس في كليات الحقوق العالمية لإعطاء المعنى الحقيقي لـ”جريمة الإبادة”!
ورغم أن محكمة العدل الدولية أقرت بوقوع جرائم إبادة ضد مسلمي البوسنة والهرسك في الفترة بين 1992 و1995، حيث قتل ما يزيد على 200 ألف مسلم بوسني من قبل الصرب، فإن المحكمة برأت دولة صربيا من تلك الجرائم!
وفي العام 2007، صرح مندوب الاتحاد الأوروبي في كينيا إريك فان دير ليندن بأن قوات إثيوبية وصومالية حكومية ارتكبت جرائم إبادة في الصومال، ومع ذلك لم يحرك العالم الغربي ساكنا، ولم تهتز المحكمة الجنائية لذلك!
واليوم يشاهد العالم بأم عينيه كيف ترتكب قوات الزعيم الليبي معمر القذافي جرائم إبادة ضد شعبه، ليقتلهم تماما كما تقتل “الجرذان”!
المثير للسخرية أن العالم الغربي لا يكاد يكترث إلا بحالتين من حالات جرائم الإبادة، فأما الحالة الأولى فهي تلك التي ارتكبها الألمان النازيون ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وأما الحالة الأخرى فهي جريمة الإبادة المزعومة ضد الأرمن في تركيا، آخر أيام الخلافة الإسلامية!
الحالة السورية
الحالة التي تعيشها سوريا اليوم هي ثورة شعبية عارمة، وأي محاولة لوصفها بأنها “انتفاضة” تقليل لشأنها الحقيقي، واستخفاف بأمر الثورة التي شملت مختلف فئات الشعب، وطغت على المساحة الجغرافية للبلاد، فلم تعد الاحتجاجات في سوريا اليوم مقصورة على فئة دون فئة، ولا على رقعة جغرافية دون أخرى.
تؤكد ذلك ردة الفعل العنيفة التي قامت بها الحكومة السورية تجاه المتظاهرين في مختلف المدن السورية، والتي نتجت عنها انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، شملت استهداف المدنيين الأبرياء والقتل العمد وتدمير البيوت بالدبابات وحصار العديد من المدن السورية، وهو ما يمكن أن يمثل “جريمة إبادة”، بالتعريف القانوني الدولي الذي حرمته “اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها” الصادرة عام 1948.
وبالتحديد، توجد ثلاثة عوامل تشير بشكل جاد إلى أن ما يحدث في سوريا “جريمة إبادة” بالمعنى القانوني الدولي.
العامل الأول: الاعترافات التي أدلى بها عدد من الجنود والضباط المنشقين عن الخدمة العسكرية، حين صرح هؤلاء بأن الأوامر صدرت إليهم بالقتل الجماعي للمتظاهرين لأجل التخلص منهم، وأنهم أمروا بقصف البيوت والمساجد على من فيها في مناطق معينة.
وهذه الاعترافات من الكثرة بحيث يصعب دحضها أو التشكيك في صدقيتها. وغالب هؤلاء مستعدون للإدلاء بشهاداتهم أمام المحاكم الداخلية أو الدولية.
يضاف إلى ذلك أن بعض الضباط والجنود المنشقين شهدوا حالات قتل لعسكريين سوريين رفضوا تنفيذ أوامر إطلاق النار على المتظاهرين.
العامل الثاني: تطويق العديد من المدن السورية من قبل الجيش السوري بالدبابات وأفراد الجيش، وقطع الكهرباء ومنع وصول المواد الغذائية والدوائية إلى المدنيين، الأمر الذي نتج عنه تعريض المدنيين لأحوال معيشية نتج عنها هلاك بعضهم، خصوصا الأطفال بسبب منع الغذاء والدواء.
العامل الثالث: التشبيه غير الإنساني، الذي تفوه به الرئيس السوري في خطابه يوم 20 يونيو/حزيران 2011، حين تم تشبيه عمل المتظاهرين بعمل “الجراثيم”، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه تشريع التخلص منهم.
يؤكد هذا الطريقة التي اتبعها أفراد الجيش السوري في قتل المتظاهرين جماعيا، في اتباع طريقة التخلص من المتظاهرين بطريقة التخلص من “الجراثيم”.
هذه العوامل الثلاثة قد تشكل في مجموعها أساسا قانونيا صلبا لإثبات تهمة “جريمة الإبادة” ضد مسؤولين سياسيين وعسكريين في الحكومة السورية، على رأسهم الرئيس السوري الحالي بشار الأسد.
وغني عن القول إن إنكار الحكومة السورية لهذه الانتهاكات والجرائم القانونية الدولية لا ينفي ثبوت التهمة، ومنذ متى كان المجرم يعترف طوعا بجريمته؟
ذلك أن الجريمة في القانون الجنائي تثبت بإحدى ثلاث طرق، الاعتراف أو البينات، بما في ذلك شهادات الشهود، أو القرائن المتضافرة.
وفي الحالة السورية يوجد من البينات وشهادات الشهود ما يغني عن الاعتراف الذي لا يتوقع له أن يكون، فضلا عن تضافر العديد من القرائن التي تعين على إثبات التهمة على المتهمين.
المطلوب عمله
المطلوب من الحكومات العربية والإسلامية في الوقت الحالي هو ما يلي:
1- إحالة الملف السوري إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لإحالة الحالة السورية إلى لجنة قانونية دولية، بقصد عمل تحقيق دولي على غرار التحقيق الذي أجرته المنظمة بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، المعروف باسم “لجنة غولدستون”.
2- أن يطلب من مجلس الأمن إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، بطلب ملاحقة المجرمين دوليا ومحاكمتهم على الجرائم التي اقترفوها.
3- مطلوب من العلماء والكتاب والمحامين والإعلاميين رفع الصوت أمام حكوماتهم وتذكير المنظمات الدولية والإنسانية بالقيام بدورها الرائد والمنشود قبل أن يسبق السيف العذل.
وخلافا لما يعتقده البعض، فإن “جريمة الإبادة” لا يشترط لها أن تشمل قتل الملايين أو مئات الآلاف من الأبرياء، ولنتذكر أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين حوكم وأعدم بتهمة “جريمة إبادة” فيما قيل إنه تسبب في مقتل 148 شخصا
الجزيرة نت