هل هذه الحرية التي تريدونها؟
بيسان الشيخ *
«ستأتي الديموقراطية يوماً… ونقتلكم جميعاً»، قال عامل إدلبي لرب عمله، التاجر الدمشقي، وقد نزح الاثنان الى بيروت منذ أكثر من عام ونصف عام. المشهد سوريالي. عامل يطلي جدار شقة فخمة يلتفت بهدوء الى صاحبها، وفيما هو يناديه بـ «أستاذ» يصدر عليه حكم الإعدام لكونه مسيحياً موالياً للنظام السوري. في ذلك الوقت لم تخرج الحادثة عن دوائر الاصدقاء الضيقة، مثيرة الضحك والسخرية ولم ترق الى اعتبارها تهديداً حقيقياً. فالعامل بقي يعمل، وصاحب الشقة بقي يفاوضه على حياته ممازحاً بأن «هل هذه الحرية التي تريدونها؟».
أستعيد تلك الحادثة اليوم بعد انتشار مقطع فيديو مصور لقائد إحدى الكتائب المسلحة يقطع فيه صدر جندي نظامي ويقضم قطعة من أحشائه، متوعداً العلويين كلهم بمصير مشابه. الفيديو حقق أكثر من مليون مشاهدة في أقل من 24 ساعة وعُطف على فيديو سابق للمقاتل نفسه يمثل بجثة ويقطّع أوصالها متباهياً أمام الكاميرا. وتزامن ذلك أيضاً مع فيديو لإعدامات ميدانية نفذها عناصر من «جبهة النصرة» بحق 11 جندياً في منقطة الرقة، فيما استعيدت لقطات سابقة لمقاتلين يسلخون رأس أحد ضحاياهم من «المؤيدين».
أتساءل إن كان العامل الإدلبي قادراً على تنفيذ اي من تلك الافعال بحق التاجر الدمشقي أم أن كلامه كان مجرد قتل لفظي ورمزي؟ أحسب أن الإجابة تكمن في المدة الزمنية التي تفصلنا عن تلك الحادثة وما شهده العام المنصرم من مجازر وانتهاكات أيقظت أسوأ ما في البشر من وحشية ودموية. فالقتل ما عاد يُمارس دفاعاً عن النفس أو في أرض المعركة فحسب، والتنكيل ما عاد سراً يتكتم عليه فاعله، وإنما صار يُصوّر ويُنشر. ولعل الأخطر أنه لا يمارس في الواقع بقدر ما يُفتعل أحياناً من أجل الكاميرا. فتلك الصورة هي التي يريد كل طرف أن ينقلها عن نفسه ليس للعالم وإنما لعدوه. فلنتخيل هذا المقاتل بعد إغلاق عدسة الكاميرا. هل أكمل التهام الكبد أم رماه من يده؟ وهل دأبه أكل الجثث مذ صار مسلحاً؟ طبعاً لا. الأرجح أنه استحضر الوحش الذي في داخله من أجل لحظة تصوير أرادها مرعبة. وبهذا فهو حالة فردية في سياق النزاع المسلح ولم يتحول بعد الى نهج ثوري أو فرقة موت كالتي تشهدها الثورات عادة.
قد يكون من السذاجة الاعتقاد بأن المقاتلين في صفوف الجيش الحر يدركون قيم الحرية والعدالة والديموقراطية التي نطالبهم بها. وذلك مأخذ كل من يعارض الثورة وإن كان لا يؤيد النظام بالضرورة. لكن من الظلم والجور أيضاً مطالبة هؤلاء المقاتلين بالتعامل وفق قيم لم يختبروها يوماً ولا أغدقها عليهم نظامهم طوال 43 سنة. فمن أين لهم أن يمارسوها، لا سيما ان شريحة كبيرة منهم هي مثل ذلك العامل الإدلبي، مقتنعة تماماً بأن أول مكاسب الديموقراطية هو إتاحة الفرصة لاستئصال الخصم والتخلص منه في شكل كلي.
والواقع ان مؤيدي الثورة من ناشطين وسياسيين ورأي عام عالمي هم من ينشد الديموقراطية. أما الثوار أنفسهم، هؤلاء المقاتلون على الارض، فيبحثون عن شيء من العدالة والإنصاف يعوضهم عن جزء ولو ضئيل من انسانية سلخت عنهم، ليس بالامس في ذلك الفيديو المقيت، وإنما طوال نيف وأربعة عقود.
ذلك السؤال المتهكم ملحٌ اليوم أكثر من اي وقت مضى، والإجابة عنه مسؤولية تلقى على عاتق المعارضين السياسيين. فإن تخلوا عنها أجاب المقاتلون بما لديهم.
* صحافية من أسرة «الحياة»
الحياة