هل هو «الجهاد» في سوريا؟
مشاري الذايدي
كان وزير الخارجية البريطاني مقاربا للصواب حينما شبه الوضع في سوريا الآن بالوضع في البوسنة والهرسك، حيث امتدت حرب مفجعة من 1992 إلى 1995. هو شبه بين الوضعين بعامل الاحتراب الأهلي الطائفي، ورسم حدود جديدة بين الطوائف معمدة بالدم، حتى بين القرية والقرية.
أزمة بلاد البلقان تلك ما زالت قابلة للقراءة والتأمل، كيف انقض الجيران الصرب على جيرانهم البوشناق المسلمين، وهم جيرة منذ مئات السنين. فجأة استيقظت النزعات الطائفية العميقة. وحينها كانت البوسنة – وهي البعيدة كثيرا عن بلاد الشام – مسرحا مغريا لجميع الجهاديين في العالم الإسلامي.
ما جرى في البوسنة يحاكي ما يجري الآن في سوريا، وقد قرأت تقريرا نقل عن جريدة «نيويورك تايمز»، يتحدث عن هواجس الطائفة العلوية الآن، بعد انفجار الحرب فعلا بين السنة والعلويين، وهي حرب يبدو أن نظام الأسد يعتمدها كحل أخير أو خيار شمشوني، لجر الطائفة العلوية رغم أنفها معه في الصراع الوجودي.
حتى لو كنت معتدلا من أبناء العلويين، أو حتى مناهضا أو منتقدا للنظام، فقد لا تكون الأمور مضمونة لدى الأكثرية المناصرة للثورة، خصوصا السنية، بعد طوفان الدم والمجازر التي اقترفها الشبيحة من العلويين، وهم يصرخون: شبيحة للأبد.
نعم، السلاح لم يدخل إلى الثورة السورية إلا متأخرا، والثورة ظلت نحو نصف سنة سلمية، رغم بطش أجهزة الأسد، ورغم تخاذل المجتمع الدولي، ومعه الجامعة العربية، وكان حمل السلاح من باب الاضطرار والدفاع عن النفس، وهو حتى الآن سلاح خفيف وشبه خفيف، في مقابل الصاروخ والدبابة والطيارة، لدى جيش الأسد وأجهزته الأمنية، وقطعان الشبيحة الهمجية.
لكن ما كان العقلاء يحذرون منه منذ أكثر من سنة إن لم يحتضن المجتمع الدولي والإقليمي المعارضة السورية، ويتعامل معها بنفس الميزان الترحيبي الذي تعامل به مع ثورة ليبيا ومصر، واليمن، أن النهاية ستكون سوق هذه الثورة والمعارضة سوقا إلى السلاح وحرب العصابات، قيل هذا الكلام بهذا الوضوح، أكثر من مرة، ولكن القوم في غيهم يعمهون.
المضحك المبكي الآن، أن الجميع يبدي دهشة زائفة حيال إمكانية وقوع حرب أهلية في سوريا، وتحولها إلى نزاع محلي معقد، يفيض إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، حسبما تشي به تصريحات المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان، وغيره من ساسة الغرب والشرق.
جيش الأسد وأجهزته الأمنية وشبيحته، بدعم علني من الحليف الروسي والإيراني، وذيل إيران في لبنان حسن نصر الله، يفترس لحوم السكان المدنيين في الشمال والجنوب، وما من رادع له، فقط مبادرات وبعثات مراقبين تزيد الطين بلة، من بعثة الجنرال السوداني «الكارثة» مصطفى الدابي، إلى بعثة الكارثة الأخرى النرويجي روبرت مود.
هل كان ينتظر من السكان السوريين، أن يتقبلوا القتل والسحل والاغتصاب والقصف، لحين اقتناع أوباما وبوتين بحل ما؟!
هذا، فوق كونه عارا إنسانيا، غباء سياسي أيضا.
لو أن المجتمع الدولي نزع الغشاء عن عينيه، وشاهد الأمور كما هي، لبادر بقيادة المعارضة وتوحيد صفوفها وحمايتها من تسلل المتطرفين الدينيين إليها، من خلال قطع الطريق على أي تفسير طائفي للأزمة السورية، لكنه لم يفعل، وفوق أنه لم يفعل، يستغرب من حماية الضحية لنفسها وحملها السلاح!
آخر فصول هذا الفجور الأخلاقي السياسي هو كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول أنه يريد منع الحرب الأهلية والطائفية في سوريا، ونقده الواضح للسعودية بأنها تدعم المعارضة السورية لأسباب طائفية، بينما «حضرته» ورئيسه بوتين لا يفعلان ذلك من خلال إمداد الأسد بكل أنواع السلاح والدعم المخابراتي والسياسي، ومعهما إيران!
أي وقاحة هذه..
أما نهاية هذه الإدارة الدولية السيئة للملف السوري، فهو أنهم، من واشنطن مرورا بلندن إلى موسكو، يقولون إنهم يريدون منع الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية، أي بين السنة والشيعة. ولكن مؤدى ما يفعلونه فعلا هو فتح الأبواب كلها نحو هذه الحرب.
ربما الكلام الذي سأقوله الآن يغضب الجيش السوري الحر والمعارضة السورية ومن يناصرهم بشكل عاطفي مطلق.. ولكن لا بأس.
قبل أيام نفى قائد «الجيش السوري الحر» رياض الأسعد ما توارد من أنباء حول مشاركة كويتيين في القتال مع «الجيش الحر» على الأراضي السورية. وكانت صحيفة «القبس» الكويتية أوردت أنباء، في عدد الأحد الماضي، عن دخول مواطنين كويتيين إلى الأراضي السورية للمشاركة في القتال بجانب «الجيش الحر» ضد قوات الحكومة. وأكد الأسعد حسب صحيفة «الوطن» الكويتية أن ما يثار عن وجود مقاتلين من جنسيات عربية غير صحيح جملة وتفصيلا، وقال إن «النظام السوري يسعى لبث مثل هذه الأخبار لإيهام العالم».
شخصيا، أتفهم كلام العقيد الأسعد، وأنه يأتي في سياق الرد على دعايات إعلام الأسد، وأبواقه، وحقا أن نظام الأسد محترف للكذب والتمويه. هذا معلوم. لكن هذا شيء، وما يراد قوله هنا شيء آخر.
أعتقد أن الساحة السورية الآن، بعد استفحال المجازر التي يرتكبها نظام الأسد ضد السكان المدنيين «السنة»، وحتى غير السنة من أنصار الثورة، كما جرى في مدينة «سلمية» الإسماعيلية، أصبحت ساحة مغرية لكل من يريد «الجهاد» ضد «الطاغوت» السوري الحاكم في دمشق.
لقد حول بشار الأسد نفسه إلى هدف مثالي للجهاديين، فهو مستكمل لشروط الشر المستطير والصافي، هو دموي إلى حد التوحش، وكاره لأهل السنة، وعميل لإيران. كلها مواصفات مثالية لجعل من لا يفكر في الجهاد من الشبان أو الناس الذين يرون العالم فقط على هيئة حرب بين أهل الإسلام وغيرهم، يلتهبون شوقا للقتال.
الكل يعلم أن بشار الأسد وأجهزته جربوا الاستفادة من هذه الطاقة الجهادية الجامحة، في العراق ولبنان، وليس يغيب عن البال استخدامه لجماعة فتح الإسلام في لبنان، ثم استخدامه لبعض الشيوخ الجهاديين في تجنيد الشبان العرب للذهاب إلى العراق ومشاغلة أميركا هناك، وقد تحولت حدود سوريا نحو 5 سنوات بعد سقوط صدام حسين في أبريل (نيسان) 2003، إلى محطات شحن وإسناد للزرقاوي وغيره في العراق.
الآن، ربما يتذوق الأسد من الكأس نفسه!
وفي فبراير (شباط) الماضي «نسب» إلى أيمن الظواهري، قائد «القاعدة» الحالي، دعوته الثانية للجهاد في سوريا ضد نظام الأسد، والحض على القتال في «شام الرباط والجهاد بإذن الله وقوته دولة تحمي حمى الإسلام». حسب مفرداته. وشجع على الثبات والصمود «ضد النظام العلماني الطائفي».
زبدة القول هنا، كما سبقت الإشارة في مناسبات أخرى، أن الثورة في سوريا بدأت حرة وطنية متعالية على كل النزعات الطائفية، وكان الشعار الجامع للثورة: «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد» وكان يتم تسمية كتائب الجيش الحر بأسماء رموز وطنية مناضلة مثل سلطان باشا الأطرش وصالح العلي، الأول درزي والثاني علوي. لكن مع استمرار التخاذل – إن لم يكن التآمر الدولي – والفجور في القتل من قبل الأسد، حشر الأهالي في الزاوية، ولم يبق إلا الدفاع عن النفس بكل ما هو متاح، ومن ضمن ما هو متاح: الحرب باسم الدين.
هذا هو نتاج الإدارة الكارثية للمجتمع الدولي والعربي أيضا لثورة كانت من أرقى وأنبل الثورات العربية، شجاعة، وخطابا مدنيا.
ما زلنا نأمل أن الوقت لم يفت بعد.
الشرق الأوسط