هل يكشف التطرف متواليات الفشل؟/ إبراهيم غرايبة
ربما يكون أكثر أهمية من مواجهة التطرف القائمة اليوم في عالم العرب والإسلام، بمشاركة عالمية أنها (المواجهة) تنشئ متوالية جديدة من العمل، ففي اليأس من حسم المواجهة الأمنية والعملياتية مع المتطرفين، تشكلت فكرة أنه لا يمكن مواجهة المتطرفين من غير مواجهة التطرف. وفي المواجهة الفكرية مع التطرف، ظهرت أزمات وتحديات وفرص، لم يكن يلتفت إليها في العلاقة بين الدين والدولة، والعلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي الدور الديني للدولة، وفي إعادة فهم الدين نفسه، والتمييز بين الدين والإنساني، وبين الدين والتراث التاريخي والفقهي الذي اكتسب درجة كبيرة من الصلابة والتماسك تفوق الدين الأصلي، على الرغم من أنه ليس ديناً، وفي ضرورة ردّ الاعتبار للقراءات العقلانية للدين، والتي حاربتها السلطات السياسية (وليس فقط الجماعات الدينية المتشددة)، ونكلت بأصحابها وروّادها. وفي الوعي بضرورات مشاركة المجتمعات في مواجهة التطرف، ظهرت عيوب ومشكلات المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وأن المجتمعات وصلت إلى حالة من الضعف والتبعية للدولة، لم تعد في ظلها قادرة على التأثير والمشاركة. وفي عالمية التطرف والإرهاب وانسيابه، متحدياً الحدود والحواجز، تشكلت ضرورات وقيم التضامن العالمي، وإعادة تعريف العدو والصديق، ليكون التحدي العالمي قائماً حول الإرهاب والأوبئة والفقر…وفي ذلك كله، فإننا نعيد فهم متواليات الفشل والنجاح!
على مستوى الدولة والمجتمع في عالم العرب، يمكن الإشارة إلى سلسلة طويلة ومعقدة من التحديات التي لم تعد بعيدة عن الوعي العربي المجتمعي والجماهيري، كما النخبوي، وقد أظهرت الكتابات والنقاشات التي صاحبت الربيع العربي وأعقبته قدرا كبيراً من المعرفة الجديدة والمتشكلة بالواقع العربي، وصرنا، المشتغلين بالإصلاح، نملك خبرات ورؤى جديدة، وثمّة محاولات كثيرة ومفيدة، يمكنها اعتبارها دليلاً للإصلاح، تشكلت حول سؤال الدروس الممكنة من الربيع العربي.
كان محور الربيع العربي، على اتجاهاته وعثراته وإنجازاته، يقوم على الإصلاح أو الاحتجاج أو المعارضة في الاتجاه الذي يجعل المؤسسات السياسية والاقتصادية القائمة، تعمل لصالح جميع المواطنين، ووقف الحالة القائمة، والتي تعمل فيها الموارد والأسواق والمؤسسات والفرص لصالح أقلية من الناس، وسوف يظل الصراع قائماً ومتقداً باتجاه كسر الاحتكار والامتيازات.
لا يمكن الحديث عن مواجهة الإرهاب والتطرف، في ظل الاحتكارات والامتيازات التي تديرها أقلية في الدول والمجتمعات، فهي حالة سوف تظل تنشئ الكراهية، ومزيداً من المتطرفين والمقاتلين، ولا يمكن تجفيف منابع التطرف والكراهية والإرهاب إلا بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويجد العالم نفسه، اليوم، لأجل مواجهة الإرهاب، أنه في مواجهة الفساد والاحتكار.
استطاعت دول، مثل الاتحاد السوفييتي، أن تدير منظومة من التقدم التعليمي والصناعي، لكنها منظومة فشلت وانهارت بعد أربعة عقود، واليوم تدير الصين منظومة من التقدم الاقتصادي، ويتوقع أنها سوف تؤول إلى المصير السوفييتي نفسه. وفي المقابل، استطاعت الدول الغربية واليابان أن تديم التقدم والازدهار؛ ما يجعل السؤال عن السبب جوهرياً، سواء في مواجهة الإرهاب والتطرف أو الفقر والفشل، وتبدو الإجابة اليوم واضحة في أن ضمان إدامة النجاح يعتمد على الأسواق والمجتمعات التي تجد مصالحها في التقدم، وأن السلطات السياسية لا تستطيع وحدها أن تديم النجاح والاستقرار، ولأجل أن تكون المجتمعات والأسواق شريكة في ضمان التقدم والاستقرار، فإنها في حاجة إلى أن تكون مستفيدة وراضية، وليست كياناً ضعيفاً مستغلاً لصالح أقلية سياسية أو نخبة اقتصادية،.. كيف تعمل المؤسسات السياسية والاقتصادية لصالح جميع المواطنين، وليست لأجل أقلية، هذا هو مفتاح الإصلاح ومواجهة الإرهاب، وسوف تجد الأقليات المهيمنة والفاسدة نفسها في مواجهة المجتمعات والعالم أيضاً، وأنها تخوض وحدها المعركة مع المتطرفين والإرهابيين، بلا تضامن عالمي أو اجتماعي، إلا بتغيير نفسها وطريقتها في إدارة الموارد والمؤسسات.
“لا يمكن تجفيف منابع التطرف والكراهية والإرهاب إلا بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويجد العالم نفسه، اليوم، لأجل مواجهة الإرهاب، أنه في مواجهة الفساد والاحتكار”
استطاعت إسبانيا والبرتغال احتلال العالم الجديد وراء الأطلسي، وأن تستخرج كميات هائلة من الذهب والفضة، لكنهما في سلوكهما الوحشي والاستبدادي آلتا إلى حالة من الفشل والهزائم، وورثتهما بريطانيا وهولندا، وتحول الذهب والفضة من إسبانيا والبرتغال إلى الخزائن الهولندية والبريطانية، وكذلك الخبرات والثقافة، من خلال تنظيمات اقتصادية وسياسية، أنشأتها الدولتان، جعلتاها جاذبتين، ومحط ثقة للكفاءات ورؤوس الأموال.
وبذلت الدول العربية الحديثة جهوداً وموارد طائلة في بناء المؤسسات التعليمية والصحية والمرافق والخدمات، ولأجل الثقافة والفنون، لكنها، في سلوكها المتعجرف والمستبد والنخبوي، جعلت الحالة العربية صراعاً وكراهية مدمرة بين الدولة والمجتمع، وبين أقلية نخبوية احتكارية وأغلبية تعاني من الإقصاء والتهميش والاحتقار.
واليوم، وقد أصبح الإرهاب والتطرف والصراع الديني والإثني يهدد وجود ومصائر النخب نفسها، كما الدول والمجتمعات، فإنه لم يعد خافياً أن الناس والمجتمعات ترى أنها ليست معنية كثيراً بالحرب الدائرة بين الحكومات والمتطرفين، وأنهم لن يخسروا شيئاً جديداً، .. لم تدرك السلطات العربية أنها دفعت الشعوب إلى حالة من اليأس، وأنها لم تعد ترى فرقاً بين الموت والحياة، ولم يعد لها أمل تتمسك لأجله بالأنظمة السياسية القائمة.
ربما لم تكن الجماهير العربية، سواء في الربيع العربي، أو تأييدها المتطرفين، في مستوى من العقلانية والوعي الكافي بمصالحها، وهذه أزمة كبرى بالتأكيد، لكنها تملك شعوراً جارفاً بالظلم، حتى وإن لم تدرك العدل إدراكاً كافياً للتأثير والإصلاح، وهذه هي الفرصة المتبقية للنخب العربية، .. أن تدير عدالة منشئة لعقد اجتماعي جديد، يحقق الرضا والاستقرار، أو تواصل إمعانها في الحرب على الناس، .. ولكن، يبدو أن العالم لم يعد مستعداً لمواصلة تأييده الظلم والفساد.
العربي الجديد