هيا… أرِنا شطارتك/ أمجد ناصر
أُفتِيَ، ذات يوم، لأناسٍ كانوا يرزحون تحت حصار قاسٍ بأكل القطط والفئران، بعدما نفدت مؤونتهم. أتوا، أولاً، على ما كان في بيوتهم، ثم ما حوته البقاليات في شوارعهم الضيقة. ثمة أشجارٌ قليلةٌ، لا تؤكل ثمارها جُرِّدت وأُكلت. لم يبق ما يؤكل في ذلك المربع الصغير، المحاصر برجال يصوبون البنادق إلى كل من يتحرك في الشوارع، وخصوصاً، الذين كانوا يغامرون باختراق الحصار المحكم. بعدما لم يبق ما يؤكل، أفتى رجال الدين، للمحاصرين في الداخل، بأكل كلِّ ما يدبُّ على الأرض: القطط، الفئران، الجرذان، الكلاب السائبة. كانت الأمطار التي تعاقبت، شتاءً بعد آخر، قد تكفلَّت، نسبياً، بحل مشكلة الشرب.
لم تكن هناك أرض خلاء، في ذلك المربع الصغير المحاصر، كي تنبت أعشاب تؤكل. كان الحصار المحكم علنياً. يعرفه الجميع. التلفزات والإذاعات تتناقل أخباره. الصحف تسهبُ في الحديث عما يجري وراء سياج بنادق المحاصِرين. النسوة في الخارج تدعو إلى فك أسر المحاصَرين، رجال الدين يفتون لهم بأكل ما لا يؤكل في الأحوال العادية، وهذا قصارى ما استطاعوا عمله. لكنَّ أحداً لم يستطع إيصال ما يؤكل أو يشرب إليهم. سُمّي ذلك العقاب الجماعي المعلن الذي استمر ثلاث سنين: “حرب المخيمات”.
انتهى الحصار بأمر من حافظ الأسد، مثلما بدأ بأمر من حافظ الأسد. لم يعاقب أحد على تلك الفعلة. لكن الفعلة التي قام بها “أشقاء” حاقدون ستكرر، لاحقاً، على أيدي “أشقاء” وأعداء، سواء بسواء، من دون أن تشكل عبرةً.
ثمة مكانٌ، أوسع بكثير من المكان السابق، وأكثر اكتظاظاً بالناس، يخضع لحصار مهمل. مرّت آلاف الأيام والليالي، والحصار لا يتزحزح. لا يوجد في عالمنا، الآن، شعب يخضع، بشيبه وشبابه، نسائه وأطفاله، للحصار من خمس جهات. انتهت أزمنة الحصار القروسطية في أي بقعة على الأرض. هذا فقط يحصل، الآن، على يد “شعب الله المختار” (المسكون بفكرة الحصار والقلعة)، ويُسمَّى في قاموس الضمير العالمي دفاعاً عن النفس. خلف سياج الحصار المهمل، يرزح أناس تحت أنواع شتى من الإذلال، تبدأ بمنع الإمدادات الغذائية والطبية، ولا تنتهي بالحجْر الذي يشبه ما كان يخضع له المصابون بالجذام. هذا المكان البائس، المهمل، المنسي، الذي تسدُّ إسرائيل (والنظام المصري) منافذه من خمس جهات يدعى: قطاع غزة.
تلفزات هذه الأيام أكثر فعالية ونشاطاً وثرثرة مما كانت عليه أيام “حرب المخيمات”. إنها تتنقَّل، بخفَّة تُحْسَدُ عليها، بين متناقضاتٍ لا يمكن لها أن تجتمع إلا في هذا الجزء من العالم. ففي نشرة واحدة، يمكننا أن نرى أجساداً ملفوفة بقماشٍ مبقَّعٍ بالدم، في مستشفى غزّيٍّ لم يعد لديه ما يقدمه لمرضاه، وإعلاناً عن سهرات العيد في فندق، بين البحر والصحراء، يعيد بناء قارة خرافية ضائعة. في النشرة نفسها، تبكي أم ترى ابنها يموت أمام عينيها، يعقبها إعلان لمسلسل رمضاني حافل بالنساء والأراجيل و”الحياة اللذيذة”! علامة التعجب الأخيرة من وضعي. وهي تبدو ميلودرامية بعض الشيء، إذ إن أحداً، تقريباً، لا يتعجب.
إنها مجرد علامة تنقيط تقتضيها الكتابة ليس إلا. علامة التعجب، كما ينصُّ عليها المعجم، تكتب ولا تلفظ. أي أنها بلا صوت، مثل تلك العائلة التي ماتت بأكملها من دون أن نسمع صرخة، في المدى العربي المنكوب بنخبه وكوارثهم، تستنكر هذا الموت الجماعي.
***
أخبرني صديق، خرج بمعجزة من ذلك الحصار، قبل أن تغطي الطائراتُ سماءً لا تصلح إلا لصعود الأرواح، عن وضعٍ يشبه الجحيم. لفَظَ كلمة “جحيم” من دون أية دراماتيكية تذكر. ظننت أنه استخدم الكلمة بوصفها “كليشيه” دارجة في الكلام العربي. لذلك، سألته عما يقصد بكلمة “جحيم”؟ وعما إذا كانت مجرد مبالغة في الوصف. فقال أقصد الجحيم فعلاً. شيء يشبه جحيم دانتي، ولكن على الأرض: طبقاته، حراسه، بواباته، أنواع أناسه، درجات عقابهم. قال إن للجحيم الغزيِّ سَدَنة، وفيه درجات وطبقات. يمكن لبعض نزلائه أن ينتقلوا من درجة الى أخرى، داخل الجحيم نفسه، ولكن، قبل أن تغير الطائرات. فعندما تغير الطائرات تتساوى درجات الجحيم كلها، وتنتفي الفوارق بين نزلائه.
***
السؤال الآن، وإسرائيل تستفرد بقطاع غزة: ماذا سيفعل أقرب جيران الغزّيين، المشير عبد الفتاح السيسي؟ يفخر أنصار سلفه بأنه حقق وقفاً لإطلاق النار بسرعة قياسية، وجنَّب القطاع المزيد من الدمار. فماذا هو فاعل، الرجل القادم من الجيش إلى رئاسة الجمهورية في قضية تمسُّ الأمن القومي المصري، غير الاستنكار طبعاً؟
هيا يا مشير.. أرِنا شطارتك!
العربي الجديد