وجهُ الريفيين والبرجوازيين والعسكر/ أيمن الشوفي *
غَنِمت السلطة في سوريا من وراء دستور شباط / فبراير لعام 2012 مكسبين لتسويق إعلاناتها الإصلاحية في عيون مواليها (لا سواهم). حددت الولاية الدستورية للرئيس بدورتين انتخابيتين فقط، ثم طمأنت بانحسار “الشمولية” كتعبير سياسي لذوبان المجتمع في الدولة بأن ألغت المادة الثامنة من الدستور السابق بما تنصّ عليه من أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع. لكن السلطة بهذه التعديلات، وبغيرها، بقيت تدير البلاد كما لو أنها الناتج الحتمي لسكون المجتمع وحركته، وكما لو أنها أيضاً تُدير تركة متوارَثة من زمن صعود البعث واستئثاره بالسلطة منذ العام 1963 التي كاد حراك آذار/ مارس عام 2011 أن يستأصل الانفراد بالسلطة بعقد اجتماعي جديد يفرج فيه عن الجمهورية الثالثة.
أربعة عقود ودستوران
السلطة الحالية، بمكوناتها الأساسية، ليست طباقاً للسلطة التي تشكلت أوائل السبعينيات، وصاغت سوريا في دستور آذار/ مارس عام 1973، وثبّتت نفسها فيه كطبقة حاكمة تألفت من ضباط عسكريين وأمنيين وجزء من قيادة البعث، وتمكنت لاحقاَ من هضم بنى المجتمع بالتدريج. استغرق بلوغ سلطة مستقرة عقداً من الزمن، بعدما استخدَمت خلاله التيارات المتنازعة كل التكنيكات الممكنة بغية الحسم وإقصاء الآخر بما يمثله من وزنٍ اجتماعي، والاحتفاظ بمخرجات التحوّل الاقتصادي الجديد لمعادلتي التأميم والإصلاح الزراعي النافذتين خلال سنوات الوحدة مع مصر. الطبقة السياسية الجديدة في السلطة (1963) زادت عليهما وصفات إضافية في الاقتصاد التخطيطي الموجّه، فاحتكرت في العام 1965 حركة استيراد المنتجات الصناعية والاستهلاكية والدوائية، واحتكرت تصدير القطن ومختلف الحبوب، ثم أممت كل الشركات العاملة في تصنيع ونقل وبيع المشتقات النفطية، فبلغت القيمة التقريبية لما تمّ تأميمه وفق أرقام تلك الفترة نحو 300 مليون ليرة، وهذا مَثّل نصف قيمة كل المنشآت الصناعية في سوريا حينها.
خلال العقد الأول من عمر جمهورية البعث، وهي الجهورية السورية الثانية، قام الحزب المنتصر بداية بحذف الناصريين من طبقة الحكم الوليدة، وهم كانوا شركاءه في انقلابه. غير أن هذا الحذف لم يغيّر كثيراً من اصطفاف أغلب البنى الاجتماعية وراء التبدلات الاقتصادية الجديدة ذات الطابع الاشتراكي، بالرغم من القاعدة الشعبية الواسعة للناصريين في مراكز مدن مثل حلب وحمص واللاذقية. أيضاً لم تغيّر كثيراً صدامات حماه الموالية بمعظمها لأكرم الحوراني مع دولة البعث في نيسان/ أبريل عام 1964 من استقرار السلطة الجديدة، التي انشغلت في العام 1966 بتصفياتٍ داخل جسم البعث الواحد غرضها إقفال السلطة على طبقة محددة، فتم إقصاء القيادة القومية للحزب لمصلحة القيادة القطرية، ثم انتقل الصراع إلى القيادة القطرية نفسها، وعام 1970 جرى إقصاء جناح صلاح جديد كلياً، وصعود التيار الذي يمثله وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد.
كان مريحاً أن وظّفت طبقة الحكم المستندة بمجملها إلى ضباط يساريي النزعة قادمين من الأرياف وهوامش المدن، المساعدات المالية الخليجية التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 في مشروعات استثمارية وخدمية ضخمة قدّمت فارقاً ملموساً في مدخلات الاقتصاد السوري عن وجه الجمهورية الأولى، وإن لم تستمر مفاعيلها الطافرة إلا في عقد السبعينيات. انغمست السلطة لاحقاً في مكاسب احتكار الدولة الكلّي للاقتصاد، فبدأ الاختلال في توزيع الدخل القومي، وظهرت مراكز جديدة للثراء، وانخفضت قيمة الليرة بين السبعينيات ــ حين كان سعر صرف الدولار 4 ليرات، ومنتصف الثمانينيات حين وصل إلى 12 ليرة، ثم إلى 48 ليرة في أوائل التسعينيات ــ لتبدأ معادلة القوة الشرائية للدخول بالتآكل، وقد أخذت مفاعيل جرعة التحول الاشتراكي بالنضوب التدريجي. في هذا الوقت، لم يتوقف جهاز الحزب والدولة عن التضخم العددي بلا معنى سوى المواظبة على التهام التوسع العددي في المجتمع. وتمَّ تجاوز الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات بتجلّيها الأكثر وضوحاً، وهو غياب القطع الأجنبي اللازم لتمويل المستوردات مع نتائج تضخمية على الاقتصاد لم يتم امتصاصها لاحقاً. فقامت السلطة باحتواء أحداث حماه الدموية على المستوى السياسي بفضل قبضتها الأمنية، وبفضل تحالفاتها مع البرجوازية المدينية المتعطشة لمزيدٍ من المكاسب في خارطة الاقتصاد المغلق، فاستطاعت أن تثني تجار دمشق عن إضرابهم وإغلاق محالهم عبر شخص بدر الدين الشلاح رئيس اتحاد غرف التجارة السورية وقتذاك. ثم وسّعت مكاسب الصناعة الخاصة برموزها الأكثر وزناً في قطاع النسيج والألبسة الجاهزة، بجعلهم يجْنون الثراء من وراء التصدير إلى الاتحاد السوفياتي بموجب ما كان يعرف “باتفاقية المدفوعات”، بحيث كانت تصل أرباحهم إلى نحو 300 في المئة. لكن وبحلول منتصف التسعينيات، فقدت الليرة السورية ثلاثة عشر ضعف قيمتها مقارنة بما كانت عليه في أوائل الثمانينيات. بموازاة ذلك كانت الاستطالات الاستثمارية للقطاع الخاص تنمو وإن تحت اشتراطات السلطة وشراكتها غير المباشرة، سواء بما تفرضه من عمولات وأتاوات، أو بوضعها لمفاتيح الاقتصاد الأساسية تحت يدها، بفعل سيطرتها على إجراءات الاستيراد والتصدير وبيع المخصصات، أو باحتكارها السوق المصرفية وإدارة عمليات القطع الأجنبي، وسوى ذلك.
هذا التطعيم التدريجي للسلطة برموز مالية واقتصادية من خارج الطبقة السياسية الحاكمة أخذ مداه بعد العام 2000، وتجسد أكثر في التعديل الدستوري الذي خفض سنّ رئيس الجمهورية ليكون تعبيراً توافقياً بين مكونات السلطة على استمرارها كما هي. وهذا ليس التعديل الدستوري الأول في تاريخ سوريا المشفوع بتناغم مصالح القوى التي تسيطر على السياسة والاقتصاد. فأول تعديلٍ شبيه وقع في العام 1947 حين جرى انتخاب شكري القوتلي لولاية ثانية خلافاً للدستور.
الجمهورية الأولى، برجوازيّة وعسكر
كان الانتداب الفرنسي يعاين سريرياً كلّ السياسة في سوريا التي قسّمها إلى ثماني كيانات، فعطّل دستور عام 1920 بعد مرور 15 يوماً على إعلانه، وكان ممثلاً بقائمة “المعتدلين الموالين للانتداب” في انتخابات أعضاء الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور عام 1928، وكانت القوى السياسية المحلية حينها تتبلور في برجوازيات صغيرة ذات أصول إقطاعية توافدت إلى مقاعد البرلمان في كتل نيابية مناطقية، أهمها “الكتلة الوطنية” قبل أن تنقسم إلى حزب الشعب والحزب الوطني، وعملت جميعها في فضاء سياسي حدوده النهائية تحقيق الاستقلال، وتحرّكت في واقعٍ اقتصادي تؤطره صناعات حلب متوسطة الحجم، وقطاع زراعي بلغ حجم العمالة فيه نحو 75 في المئة من إجمالي قوة العمل حينها، فيما كانت 72 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة حكراً أرستقراطياً على قلّة تملكها وتتوارثها، فكانت الملكية الاقتصادية تقود إلى السياسة في أفقٍ موصد على هذا الشكل، وبدا من الطبيعي حينها أن يترأس خالد العظم (أحد كبار مالكي الأراضي في الجزيرة السورية) ست حكومات، وهو الذي لقبته صحافة الخمسينيات بالمليونير الأحمر نظراً لدوره في التقارب مع الاتحاد السوفياتي حين كان وزيراً للدفاع في حكومة صبري العسلي عام 1956.
تلك السلطة أطلّت على مصالحها من شرفة التشريعات، فتحاشت سنَّ ما يزيد من حقوق العمال والفلاحين، وبقيت مجافية لإصدار أي قانون يحدد سقف الملكية الزراعية. وهذا الانحياز كان بقدرِ انحياز النظام الضريبي لمصلحة تلك الطبقة السياسية، إذ لم تعرف المنتجات الزراعية أي ضرائب في عهد الجمهورية الأولى، كما وأن ضريبة الدخل كانت تزداد كلما انخفض مستواه، بحيث كان النظام السياسي حينها ينقشع من بين خيوط التشابكات الاقتصادية لمصالح شخوصه التي صاغت عام 1932 أطراف السلطة بالكامل، فأصبح صبحي بركات رئيس كتلة الشمال رئيساً للبرلمان، وحقي العظم رئيس كتلة الجنوب رئيساً للوزراء.. وبها محاصصة نيابية أيضاً، فجاؤوا بمحمد علي العابد الوجه الدمشقي الثري والبارز رئيساً للجمهورية. كما عدلت مصالح تلك الطبقة الدستور مرتين، واحدة عام 1947 لاستبدال طريقة انتخاب النواب من مرحلتين وجعلها مرحلة واحدة ومباشرة، والثانية عام 1948 لأجل انتخاب شكري القوتلي لولاية رئاسية ثانية، وكان الدستور يمنع إعادة انتخاب الرئيس لولاية ثانية قبل مضي خمس سنوات على انتهاء ولايته الدستورية. فبذلك يكون الائتلاف البرجوازي ـ الإقطاعي للسلطة في الأربعينيات وفيما تلاها قد أخضع الدستور والتشريعات لمصالحه الاقتصادية مراراً، وإن ضمن توازنات ديموقراطية عنوانها الواضح نتائج صناديق الانتخاب. وهي وفي آن بقيت توازنات تفتقر لأي منافسة طبقية أخرى، حتى أدركت طبقة الضباط حجم قوتها العسكرية وعطالتها السياسية، فامتطت الدبابات ودخلت السلطة في ثلاثة انقلابات عسكرية، عام 1949، تقوّضت فيها السلطة المدنية والدستورية للبلاد. لكن حكم الضباط شرعن ما يضمن لهم استقطاب طبقات اجتماعية تُدعّم هشاشة استيلائهم على السلطة، بعدما همّشتها ذائقة التشريع البرجوازي فيما سبق ذلك، فأصلح العسكر النظام الضريبي لجعله أكثر عدالة، ودعّموا حقوق العمال والفلاحين أكثر، وحددوا سقفاً لملكية الأراضي الزراعية. تلك الفئات الاجتماعية كانت أيضاً قبلة حزب البعث في الاستقطاب، مضافاً إليها الطلبة، حيث كانت المؤشرات التعليمية تبشر بنمو تلك الشريحة، إذ ازداد عدد المدارس من 289 في العام 1940 بعدد طلاب بلغ 46 ألفاً، إلى 2184 مدرسة عام 1950 فيها 297 ألف طالب، ثم وصل عددها عام 1960 إلى 3261 مدرسة وعدد الطلاب إلى 424 ألف طالب. فأثمر جهد البعث الاستقطابي في الانتخابات البرلمانية لعام 1961 بفوزه بثاني أكبر كتلة نيابية بعد كتلة حزب الشعب، متجاوزاً حصيلة المقاعد التي ظفر بها الحزب الوطني قبل عامين فقط على انقلابه الشهير في 8 آذار/ مارس عام 1963، وإجهازه على الجمهورية الأولى بالكامل… وعلى احتمال ولادة أيّة جمهورية أخرى!
* صحافي من سوريا
السفير