وجه سورية… الوطن العربي الجميل
محمد كتيلة
لم نعد نقوى على العيش هنا، في بلاد الثلج وموطن الصقيع، مأوى الإغتراب القسري.. من دون أن تعبرنا نسائم الحرية وبلا إنقطاع، والتي تلفح وجوهنا الحائرة الناشفة، الغائرة في الهمهمات والتساؤلات البائسة الفارغة، التي لم يعد لها أي معنى أمام هذه الإجابات الهائلة من الشهداء ومحنة الأبرياء، القادمة مع كل فجر وليل، من معقل بلاد الشام، مصحوبة بإنثيالات الدم التي تغطي وجه سورية ، الوطن الجميل… المعلق على شفاه الأمهات الرائعات الثكالى، اللواتي يوقدن الدمع والزغاريد لحظة الوداع الأليم، لإنارة الدرب والطريق الموحل وباطن الأرض،لأجل أن يتوفر للشهداء إستراحة قصيرة بين موت الجسد وانهيار الوطن على مذبح الحرية.
هنا، في المنفى، وهناك في ساحات القتل المعلن وبالمجان، لسنا بحاجة لكل هذا الدم لننجو بالأمل بإزدياد الفجيعة والألم… لكن، من ذا الذي يستطيع أن يوقف رفرفات أجنحة الحرية التي حلقت في سماوات سورية وتجندلت بها الأرض والأجساد التي أرداها الطغاة ومزقوها بالرصاص والحقد والشتيمة، ومن ثم ألقوها في ساحات الشوارع وفي الأنهار ومنها من رموها إلى جانب حاويات القمامة، بلا خشية أو حساب … فلا عذاب أشد وأقسى وأكثر إيلاماً من عذاب الشعب السوري الأبي، والذي أدار وجهه لعتمة الطريق والغرق والإحتراق، بعد غيبوبة مضنية، وما أن استفاق، وجد الطاغية وجلاوزته يَمثلون أمام عينيه بالعتاد الحربي الكامل، وبالمرصاد لكل كلمة تشق طريقها في الأجواء المكهربة، ينكلون بجسده وبعرضه وبأقذر الأساليب وحشية وهمجية، ويسبحون في دمه، من دون عناء أو أدنى تفكير، وبغطرسة لا مثيل لها، متكفلين بإنهاء البلاد، وجرها بعنجهية خرقاء، إلى الدمار والخراب، بإستهانة مقيتة سافلة، بالممتلكات والأمهات والأطفال والمقدسات وتاريخ البلاد.
وما ترويع الشعب بهذه القسوة الباعثة على الإشمئزار والقرف وبهذه الضراوة، والتي يمكن لها أن تؤدي إلى الفزع والهلع وإلى تطويع القلوب وإن كانت من حجر، إلا إيذاناً ومقدمة للطوفان، فهم لا يريدون من بعدهم أية حياة ولا وطن…. ولا يفعل ذلك إلا فاقد الضمير وعديم الشرف الوطني، ومن ربط مصيره الجهنمي الساقط الهالك المتهالك المهلك بمصير الشعب والوطن، ومن له سوابق لا تحصى كعلامات فارقة جارحة وعصية على النسيان من أي كائن سوري كان، مقيمة في الذاكرة، كإقامة الروح في الجسد… ومن أرعبه الخوف الذي سمم به حياة البشر، فارتد عليه وأصبح بلا حيلة ولا قوة وعلى مشارف الإنتحار والزوال أو الفرار من وجه البلاد للأبد .
والأوفياء الصاغرين للطاغية ولوحشيتهم السافرة، المكشوفة لكل إنسان حر لا غير، لا يمكن أن يكونوا من سلالة البشر ولا من الكائنات قطعاً وفصلاً وقولاً، ما أن تراهم في الشوارع والأزقة وفي الساحات وخلف البيوت، وترى أفعالهم القذرة المقززة، تشعر بالإقياء وبالإعياء معاً، وحين تتحاشى رؤية وجوههم المقرفة، تسكنك العتمة، تصطك أسنانك غيظاً وكرهاً، وكأنك تراهم وقد تحولوا إلى أبالسة وشياطين، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من طين الأرض وملحها، ولا من أرحامها، وتسأل قبل الإغماء : بأي علف كانوا يُعلفون ولعشرات السنين، وما طبيعة الأمصال التي حقنوا بها كل الوقت، ليتكونوا ويكونوا بهذه الوحشية والهمجية المفرطة، وما هي الطاقة التي مدهم بها طاغية الماضي الرهيب وطاغية الحاضر الماكر اللئيم، ليكرهوا الشعب والوطن بهذا الشكل العدمي، والذي لا يرحم ويتعدى إمكانية فهم البشر الأسوياء ؟؟
هؤلاء، هم أبناء آوى… قتلة سفلة، وحوش ضارية لا ضرورة لهم, خرجوا من أوكارهم وجحورهم فضلوا طريق العودة إلى الكهوف والمغاور والغابات… يملؤون المدن والقرى بالقباحة والوقاحة، يجرجون خيباتهم من مدينة لأخرى ويتقهقرون بالخزي والعار، كآخر وباء على الأرض.. إنها القيامة ولا جدوى من الإستماع إإلى القاتل إلا بما يرشح من سيرته الدموية وما يفضح من جبروته وطغيانه وهذا العسف المقيت المدمر القاتل… إنهم آخر الطغاة وقد إرتكبوا أبشع المجازر في حق هؤلاء اليتامى والثكالى، مرضى وصرعى الحرية ، من يتوقون حتى آخر نقطة دم، لحياة لا يجري في أنهارها- من العاصي إلى الفرات إلى بردى – وعلى أرضها الطيبة إلا الكرامة… وهذا وعد الثوري الآبي، إبن الشام الأصيل العتيق، الذي انتفض لمرة واحدة ولآخر مرة للأبد.. هذا الشعب الطيب الصادق الوفي لآدميته وإنسانيته المتأصلة في التراب والهواء والجذور.
يا لوحدهم في عتم الطريق وواحات الدم…. يا لقوتهم وجبروتهم في مواجهة أشرس نظام سياسي في العالم. يا لهذه الصدور العارية التي تواجه الرصاص والغدر بصبر غير معهود وبعزة سيفتخر بها التاريخ الإنساني القادم، وبكبرياء لن ولم نشهد له مثيل، إلا في اليمن الأصيل، وتباً تباً لهذا العدو الغاشم البائد الغادر الجبان.
يا لهذا الصمود الأسطوري الذي أعاد الملامح لوجوهنا بعد غياب طال أمده، وجعلها قابلة للحياة، قادرة على الأمل من جديد، ولو بعد حين.
كاتب فلسطيني يقيم في كندا