وخرج الأكراد من مولد دمشق بدون حمّص
هوشنك بروكا
من تابع المؤتمر الصحفي الذي عقدته بثينة شعبان مستشارة الرئيس السوري بشار الأسد، أمس، لا بدّ وأنه قد قرأ في طيات خطابها الكثير من “سوف”، و”ندرس”، و”نبحث”، و”نعتزم”، و”نسعى”، و”نطمئن”، و”نحرص”، و”نحب”، وإلى ما هنالك من مفردات تحمل الكثير من الكلام والتأويل والتأجيل، مقابل القليل من الفعل والتفعيل.
لست هنا بصدد مناقشة كلّ ما جاء في خطاب المستشارة، التي قرأته بالنيابة عن القيادة القطرية لحزب البعث ورئيسها بشار الأسد. لأن الخطاب، كعادة كلّ خطابات الرئيس الماضية، هو لعبٌ على الكلام وزخرفة في الأقوال، أكثر من أن يكون سعياً جاداً لصناعة الأفعال.
فالمستشارة قفزت على ملف المعتقلين السياسيين، الذي يعتبر واحداً من أهم وأكبر الملفات الإشكالية، التي يطالب السوريون بمعالجتها معالجة جذرية، في سياق دعواتهم إلى الإصلاح والتغيير. كما أنها لم تخبرنا عن مراسيم فعلية خاصة، لرفع حالة الطوارئ المفروضة منذ 48 عاماً، أو إصدار قانون جديد للأحزاب، أو إطلاق فعلي للحريات، أو آليات حقيقية لتفعيل القضاء ودور السلطة الرابعة، وإنما قالت بأن القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم برئاسة بشار الأسد، تعتزم “دراسة” كلّ ذلك “بالسرعة الكلية”، ل”تقديمه للحوار السياسي والجماهيري”، على حدّ تعبيرها.
ولكن ما هي طبيعة هذه “السرعة الكلية”، وما هو شكل وفحوى هذا الحوار المفترض، فلا أحد يعلم إلا النظام ورئيسه.
ربما الجديد في الخطاب، على مستوى الفعل، هو الشق المتعلق بزيادة الرواتب والأجور المقطوعة لموظفي الدولة بمبلغ 1500 ليرة سورية، وزيادة الأجور من دون 10 آلاف ليرة سورية، بنسبة 30%، و20 % للأجر أو الراتب الشهري البالغ 10 آلاف ليرة فما فوق، ورفع الحد الأدنى للضريبة من الدخل الصافي إلى 10 آلاف.
أياً تكن جهة هذه “الإصلاحات” ونياتها، وكيفما كانت طبيعتها، أو نصيبها من الدخول في حيز التحقق والتنفيذ، فأنها تبقى “إصلاحات اضطرارية”، أو خطوةً احترازية، اضطرّ النظام إليها، للتنفيس من ضغط الشارع السوري الغاضب، الآن في درعا وحواليها، والذي يخشى النظام أن يمتد إلى كلّ الأصقاع والمدن السورية.
من هنا يمكن اعتبار هذه الإصلاحات، التي “زُج” فيها النظام، بمثابة “التنازل رقم صفر”، الذي ستلحقه بكلّ تأكيد تنازلات أخرى وأخرى، سنشهدها في القادم من مؤتمرات رؤوس النظام، كما شهدنا(ولا نزال) التنازلات والمؤتمرات والخطابات ذاتها، فضلاً عن “التنحيات” والإستقالات والإختفاءات، في تجارب غضبٍ قادته شعوب عربية سابقة، مثل تونس ومصر، وليبيا واليمن.
نعود إلى الموضوع الرئيس للمقال، ألا وهو محل الأكراد من الإعراب، في خطاب السيدة المتشارة الدكتورة شعبان، وإصلاحات قيادتها القطرية.
بعد دخولها كالعادة، في تفاصيل “نظرية المؤامرة”، وعرضها لأسباب استهداف الأعداء لسوريا “الحضن والضلع الآمنين للمقاومة”، ووقوع اختيار هؤلاء على درعا الحدودية، بادرت شعبان إلى تهنئة “أبنائها الأكراد” بمناسبة “عيدالنيروز”، ووصفته ب”العيد الحضاري الذي يعكس النموذج السوري الرائع”.
إلا أنها عادت واعتذرت في سياق جوابها على سؤال أحد الصحفيين، بخصوص مصير ملف “الأكراد المكتومين المحرومين من الجنسية السورية”، عن تسميتها للأكراد بأسمهم الحقيقي، وقالت بأنها استخدمته “تجاوزاً”، على حدّ تعبيرها. فهم، حسب قولها، في سوريا، لا يستخدمون هكذا مصطلحات “عرقية أو طائفية أو دينية”، لأن الكلّ “مواطنون سوريون” أولاً وآخراً.
لهذا عادت ل”تصححهم”، فوضعتهم في خانة “شريحة” من شرائح المجتمع السوري.
لا حاجة للدخول في ملفات “مكتومية” و”أجنبية” و”خارج وطنية” الأكراد، في الشمال السوري، كما تقول المراسيم الجمهورية الصادرة بحقهم، منذ حوالي نصف قرنٍ، وبأوامر مباشرة من رأس النظام نفسه، وليس غيره.
فتلك أصبحت قضية فوق معروفة، بل ومفضوحة، يعرفها البعيد كالقريب، والعربي الجار قبل الكردي في الدار.
وما تهرّب المستشارة من السؤال والإلتفاف عليه، بكلام خشبي مكرور، ووعود طيّارة لن تتحقق في ظل هذا النظام إلى يوم القيامة، إلا دليلاً على التفافها على الأكراد وقضيتهم المتمثلة بحقوق المواطنة، فضلاً عن لااعترافها بالحقوق السياسية والثقافية جملةً وتفصيلاً.
فهي ب”تشريدها” للأكراد، على العلن، من اسمهم الحقيقي، في كونهم أكراداً ولدوا عليه، كما يشهد التاريخ والجغرافيا على ذلك، فضلاً عمّا بينهما من اجتماعٍ وثقافة، إنما كشفت عن القناع الحقيقي لهذا النظام الواحد الممثل بالحزب الواحد، الذي لا ولن يقبل إلا ب”حرية واحدة”، و”وحدة واحدة”، و”اشتراكية واحدة”، كما حدث ولا يزال منذ الإنقلاب البعثي في الثامن من آذار 1963.
هي، بإعتبارها مستشارة سياسية وإعلامية لرأس النظام، أثبتت مرةً أخرى، أنّ “لا أكراد في سوريا”، إنما الموجود هو “عربي سوري” فقط، في جمهورية عربية سورية موجودة.
أما تهنئتها للنيروز، كما سمته، فكانت من باب ذر الرماد في العيون، فضلاً عن أنها كانت تهنئة ل”التنوع الحضاري السوري”، قبل أن تكون تهنئةً لعيد كردي بعينه، في كونه رأساً للسنة الكردية. من هنا كان التفاف الدكتورة المستشارة على العيد وأكراده واضحاً، حينما هنأت كل السوريين، أكراداً ولاأكراداً، لأنها تعتقد مع رأس نظامها، بأن كل الأعياد التي تُعاد وتكرر سنوياً في الجغرافية السورية، إنما هي أعياد لكلّ السوريين، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم أو إثنيتهم.
كنت أتمنى، أن يكون كلاماً كهذا صحيحاً بالفعل، في بلدٍ متنوع دينياً وإثنياً كسوريا. ولا أنكر بأنّ الطريقَ إلى سوريا مدنية حرة ديمقراطية، لا بدّ وأن يمّر بثقافة سورية متسامحة، يسامح فيها الكلُّ الكلّ، ليعيش الكلّ فيها، حراً، مع الكلّ.
ولكن الحقيقة السورية الراهنة، لا تقول خلاف ذلك فحسب، وإنما تقول عكوسه أيضاً.
ولا حاجة للدخول في “ثوابت” النظام السوري الذي تعمل شعبان مستشارة له، ويشتغل ليل نهار، على “ضرب الطائفة بالطائفة”، و”العرب بالأكراد”، و”الشعب بالشعب”.
ثم أنّ الدستور السوري نفسه، لا يقبل بكلام السيدة شعبان، إلا في كونه ضرباً من ضروب الشعر، أو الرومانسية السياسية، التي لا يمكنها حتى الطيران في سماء سوريا.
كان من الأولى بالسيدة شعبان أن تحترم دستور نظامها، الذي يؤكد في مواده الأساسية، على “عروبة سوريا”(المادة الأولى بفقراته الثلاث، والمادة السادسة)، وعلى “الإسلام في كونه ديناً لرئيس الجمهورية، ومصدراً من مصادر التشريع”(المادة الثانية، بفقرتيه الأولى والثانية)، وعلى اللغة العربية في كونها لغةً رسمية للبلاد(المادة الرابعة)، وعلى “البعث بإعتباره حزباً قائداً”(المادة الثامنة).
ولا ندري ما هو إعراب “التنوع الحضاري السوري” الذي غلّفت به شعبان خطابها، في مواد الدستور السوري الإقصائي هذه، ومواد أخرى كثيرة يضيق المجال، لذكرها، أو الفصل فيها.
أين هو “النموذج السوري الحضاري المتنوع الرائع”، الذي تتشدق به المستشارة، وتقول بأنه مستهدفٌ، في دستورٍ “واحدي الجهة” كهذا؟
طبعاً لا إعراب ولا محل ولا هم يحزنون.
إعراب “رومانسية” شعبان وشاعريتها السياسية، في سوريا النظام، الذي لا دستور فوق دستور رئيسه، هو كإعراب الكرد، أو ما سمتهم ب”الشريحة” في تهنئتها “النيروزية”، لنوروزٍ ما عاد “كردياً”، وإنما “سوريٌّ حضاري” فحسب.
فكيف يمكن الحديث عن “حقوق كردية” ل”أكراد” غير موجودين أصلاً، أو اختزلتهم المستشارة إلى مجرد “شريحة”؟
طبعاً لا يمكن.
السيدة شعبان لم تنسَ أن تشير، في هذا السياق، إلى الفرق الشاسع بين ما سمته ب”المطالب المحقة التي يأخذها السيد الرئيس بكل عناية وحرص، وبين من يصطادون في الماء العكر وأن يقول كلمة حق يراد بها باطل”.
وبحسب نظرية المستشارة، كما يُفهم من خطابها، لا بدّ وأن تصبّ مطالب الأكراد التي تجملها الحركة السياسية الكردية في سوريا، ب”الحقوق السياسية والثقافية والإقتصادية وما شابهها من حقوق مشروعة لشعب”، والمؤجلة منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان، إلا في خانة “المطالب غير المحقة”، أو خانة “الحقوق التي يراد بها باطل”، طالما أنها حجبت على الأكراد، حتى اسمهم، فما بالك بالحقوق.
هذا هو الحصاد الذي تستحقه ما زرعته الأحزاب الكردية، إذن، منذ أكثر من نصف قرنٍ ونيف من “الشحاذة السياسية”، على أبواب نظامٍ لن يتنازل على الأرجح، عمّا أخذه بالقوة، إلا بالقوة.
تلك هي صفعة النظام على وجه القيادات الكردية السورية، واحدةً تلو الأخرى، عرفاناً ب”جميلها النوروزي” الأخير، وتكريماً ل”بوساتها” على عيون مسؤولي النظام، الذين قتلوا نوروز الحرية، ومسخوه إلى “نيروز” سوري مشوه، ليمشوا في جنازته، كلما استيقظ ربيع.
خروج الأكراد من حسابات النظام، واستحالتهم في خطاب شعبان إلى مجرد “شريحة”، بلا حقوق ك”شعب ضمن شعب”، كان متوقعاً، خصوصاً بعد اللاموقف الأخير الذي اتخذته الحركة الكردية في نوروز أكرادها، من النظام، قبل أيام.
ما زرعه “أكراد الأحزاب”، في نوروز العام، مع أجهزة النظام، قبل أيام، حصدوه مع شعبان الآن.
ونعمَ الخروج، خرج الأكراد، إذن، من مولد دمشق بدون حمّص.