ولكن كيف سيحكم الأسد؟: عمر قدور
عمر قدور
بعد مرور سنة على اتفاق «جنيف1» بقيت عقدة الأسد مبعث الخلاف الأساسي بين المعنيين بالملف السوري، العقدة التي تتصاعد التصريحات حولها تارة وتتجنبها المناورات الديبلوماسية تارة أخرى، أما الأسد نفسه فيظهر العزم في كل لقاءاته الشخصية والصحافية على البقاء في السلطة بعد انقضاء ولايته الحالية.
وفي مقابل عزم الأسد وحلفائه، يشغَل ما يسمى باليوم التالي القوى التي تراهن على سقوطه، ويستثمر الروس في مخاوف تلك القوى لتعزيز فرضية بقائه، من دون أن يكلفوا خاطرهم البحث في تفاصيل اليوم التالي لبقاء الأسد، ومن ثم الكيفية الواقعية لاستمرار حكمه بعد كل ما جرى، كأنهم بذلك يضمرون استمراره على النحو ذاته الذي أدى إلى الثورة الحالية، بل وينتظرون من «جنيف2» تقديم المخرج الواقعي لبقائه مع قليل من الرتوشات الشكلية.
بالتركيز على الجوانب السياسية والعسكرية المباشرة يجري تغييب أو تهميش العوامل الأخرى التي تحول دون بقاء الأسد في السلطة، ما لم يكن مشفوعاً بدعم وتمويل دوليين كبيرين. وإذا كان حلفاؤه قادرين حتى الآن على تمويل حربه فمن المشكوك فيه قدرتهم على تمويل بقائه. لذا يأملون من «جنيف 2» الإقرار بتفوق الأسد ميدانياً، وإقرار تسوية متناسبة مع الوضع الميداني، بخاصة إقرار تمويل ضخم تحت لافتة الحل السياسي تتحمل من خلاله منطقة الخليج والغرب فاتورة الدمار الذي خلفته قوات الأسد في شتى الميادين.
ولكي لا نبقى في العموميات، بات معلوماً أن احتياط النظام من النقد الأجنبي، المقدر بـ18 بليون دولار، استهلك تماماً في تمويل الحرب. تُضاف إليه تسهيلات ائتمانية بقيمة 10 بلايين دولار حصل عليها من إيران مع مستهل الثورة، ويتحدث الآن المسؤولون السوريون والإيرانيون عن تسهيلات أخرى بـ4 بلايين دولار، وما بين الاثنتين أبرم رئيس حكومة النظام بداية العام اتفاقات مع طهران بقيمة ثلاثة بلايين دولار قيل إن الإيرانيين حصلوا بموجبها على حقوق استثمار تفضيلية منها استثمار مصفاة بانياس للنفط. إلى ذلك يقدر رجال أعمال واقتصاديون منهم نائب رئيس الوزراء السابق عبدالله الدردري كلفة إعادة الإعمار- وهو تقدير لا يستند إلى مسح ميداني دقيق- بخمسين بليون دولار.، بينما تشير تقديرات أكثر دقة إلى أن حجم الرأسمال السوري المهاجر بفعل الأزمة، والذي باشر الاستثمار في مصر وحدها، يبلغ عشرة بلايين دولار.
بحساب بسيط، ومتفائل ربما، تحتاج سورية ما لا يقل عن مئة بليون دولار سريعاً فقط للعودة إلى ما كانت عليه قبل انطلاق الثورة، وهذه الفاتورة تزداد يوماً بيوم، ومع كل استخدام للأسلحة المتوسطة والثقيلة. مع ذلك تبقى الأرقام بمفردها قاصرة عن شرح الكلفة الباهظة، فهي لا تأخذ بالحسبان مثلاً خروج حوالى مئتي ألف شخص من سوق العمل بسبب الإعاقات الدائمة التي سبّبتها الحرب، وما يترتب على ذلك من كلفة اقتصادية، ناهيك عن التعويضات التي ينبغي أن تُدفع لأهالي الضحايا المدنيين ضمن أي مشروع جدي لبقاء الأسد.
حتى مع مزيد من التفاصيل الاقتصادية والاجتماعية سيبقى الشرح عاجزاً عن اللحاق بترجمة النظام لشعار «الأسد أو نحرق البلد»، وحتى هذا الشعار الشهير لم يكن يقول: «نحرق البلد ويبقى الأسد». لذا سيبدو مستغرباً جداً تمسك الأسد بالسلطة على رغم عروض التنحي السخية التي يرفضها حتى الآن، إذ ليس متوقعاً على أي حال أن تكون إدارة السلطة في ما بعد أسهل من إدارة الحرب الحالية. وإذا استثنينا عاملي التحدي والعناد الشخصيين لا يُستبعد أن يكون تمسك حلفائه ببقائه أكبر من عزمه على البقاء. ولكن، مرة أخرى، هل يستطيع الحلفاء دفع فاتورة بقائه؟
الإيرانيون لم يقصّروا حتى اللحظة في دفع ما يستطيعون، وهم أعلنوا صراحة سورية كمحافظة إيرانية، غير أن الاقتصاد الإيراني لن يتحمل إلى ما لا نهاية فاتورة الحرب، وهو مثلاً لم يتحمل مواصلة دعم الليرة السورية بعد أن فقدت العملة الإيرانية 70 في المئة من قيمتها عام 2012.
صحيح أن الإيرانيين يغلّبون الدوافع السياسية والإستراتيجية على المكاسب الاقتصادية موقتاً، إلا أن دعمهم للنظام السوري غير مدرج كمنح نهائية، وهو على الأرجح بمثابة مقامرة على أمل استرداد العوائد والفوائد في حال بقاء النظام، وهو أمر يصعب تصوره، إذ سيكون مستبعداً جداً استمرارهم في ضخ الأموال بعد الانتصار المأمول بل من المنطقي أن يكونوا تواقين إلى جني المكاسب.
أما الروس فكانوا طوال الأزمة أكثر عقلانية في الشأن الاقتصادي، فشلت محاولات النظام للحصول منهم على تسهيلات مالية أسوة بما حصل عليه من إيران، ويُشاع أنهم يقبضون نقداً ثمن العتاد العسكري بتمويل إيراني أيضاً، هذا بخلاف ما يُشاع عن انتهازية تجعلهم يرون في ثمن الأسلحة، بالتالي استمرار الحرب، آخر فرصة للتكسب من سورية في حال سقط النظام.
ويمكن فهم الصفقة المغشوشة التي يطمح إليها الروس من خلال وصفهم الأسد بأنه رئيس حرب والإصرار على بقاء الصلاحـــيات العسكرية والأمنية في يده، ففي ما عدا تفريغ الثورة من أهم مضامينها، أي القضاء على النظام الأمني والعسكري القائم، لا يمانع الروس في وجود حكومة محــدودة الصلاحيات من المعارضة، تقـــع على عاتـــقها وعلى عاتق حلفائها مسؤولية إزالة آثار حرب النظام، وعلى الأغلب مسؤولية الفشل في ذلك.
إن تقاســـم الأدوار الواضح بين الروس والإيرانيين أخيراً يدل على فشل الأسد في إدارة حربه بالأصـــالة وبالوكالة، ما اقتضى أن تتولى إيران الجبهة العـــسكرية ويتولى الروس الجبهة الديبلوماســية من أجل تثبيت موازين القوى الميدانية الحالية في اتفاق دولي لن يكون في واقع الأمر- إذا قُيِّض النجاح للمسعى الروسي- سوى هدنة مدفوعة الثمن من الآخرين.
ليست سورية الجائزة الاقتصادية الثمينة، هذا ما يفسر به بعضهم إحجام الغرب عن التدخل المباشر حتى الآن، الجائزة الثمينة المتوقعة هي في أموال الجهات المانحة. منطقياً يُفترض بتلك الأموال أن تُصرف وفق مصالح المانحين الكبار، ولكن لا يمكن الزعم بسريان هذا المنطق باستمرار.
الجياة