وليد الشريف السوري/ أحمد عمر
وجد المهندس عبد العظيم نفسه في مأزق جاهد أربعين سنة في تجنّبه.
دُعي إلى مكتب مدير معمل الكهرباء الذي يعمل فيه، فوجد رجلاً بملابس مدنية، نهض ليصافحه مبتسماً، كأنه صديق قديم مشتاق. عرّفه المدير به: المساعد أبو علي من الأمن السياسي.
كادت يده أن تتجمد، بل إنه أوشك على التحوّل إلى تمثال حجري، إلى أن تداركه المساعد، وقد أدرك صدمته، فافتعل ابتسامة كان مدرباً على أمثالها، فهو يعرف وقع اسم الأمن على أسماع أبناء هذا الشعب البارّ، ناراً على الأكباد، ودعاه إلى الجلوس.
تفضل الأستاذ وجلس، وشرد بعيداً في سراب العدم، وراء ثيران شاردة.
جاهد المهندس عبد العظيم في الحياد السياسي، لا يذكر أنه غمز من شخصية سياسية، أو لمزها أمام زملائه، إذا كان من أخطاء تُعاب عليه في هذه الدولة “العلمانية” الموّقرة، فأحد أمرين، الأول: غيرته على العربية عموماً، والقرآن خصوصاً، وتصحيحه عند الاستشهاد بالقرآن الكريم أخطاء الزملاء ولحنهم، فهو مجاز في القراءات السبع. الثاني: أنه في بداية انطلاق الثورة وبشائر إلغاء المادة الثامنة، ونقل نصب السيد الرئيس من حماة، استبشر الزملاء بعهد جديد، فتودد إليه أحد الزملاء مازحاً، وهم يقومون بصيانة لوحة الكترونية لإحدى العنفات، فقد جاء أوان الحرية، وسأله عما إذا كان ينوي العمل السياسي بعد هذا التعطيش القهري.
فاستجاب للسؤال، وألقى قنبلة، وقال: تأسيس حزب بيئة، مثل حزب الخضر!
أيقظه صوت المساعد، وهو يثني عليه. وعبد العظيم مهندس ليس على شاكلته اثنان في البلد كلها، إنه فلتة. سمع أكثر من مرة زملاء يسخرون من اعتبار أينشتاين أذكى رجل في العالم، أو الثناء على ذكاء هوكينغ، فعبد العظيم أديسون البلد، ويصلح الأعطال في مولدات كهرباء البلاد، وقد انخفضت ساعات النور في البلد إلى ساعة أو ساعتين حسب المنطقة، وأحيانا تغرق في الظلام أياماً وأسابيع.
كان مديرو المحطات الكهربائية، يراسلون الشركات الصانعة في اليابان، أو أمريكا، أو إيطاليا، سائلين عن حل الأعطال بالمراسلة، فيشيرون عليهم، ويقترحون حلولاً، واقترحوا السكايب لحل المشاكل، أو الماسنجر، لكن الشركات الأجنبية الصانعة رفضت، فهي تعتمد المراسلات الرسمية، وكلما سأل مدير المحطة الكهربائية عن عطل جديد في إحدى عنفاته، هاتفياً أو بالايميل، سأل مندوب الشركة الصانعة عن حال العطل القديم، فيصعق، كيف استطاع السوريون إصلاح العطل، ويقول: معجزة! لا يمكن حل المشكلة السابقة، إلا بتبديل اللوحة القديمة بلوحة جديدة، لكن عبد العظيم كان يحلها بجسور من قطع الكترونية يشتريها من السوق.
عبد العظيم وسيم، له سمتٌ وهيبة، شديد الأناقة، كية بنطاله كالسيف، تقطع رقبة الجمل، ليس له أصدقاء في العمل، حريص على الاحتماء في قوقعة شخصية، ومسافة أمان كبيرة عازلة، فهو لا يمازح الزملاء، ولا يشاركهم الحديث، كأنه رجل آلي، ولم يتحدث في السياسة قط، لكنه يتجنب النفاق، ويحتال للهرب من ذكر أسماء الرؤساء العرب والأجانب، أو يلجأ للكناية عند الضرورة.
حاول المساعد أن يمازح عبد العظيم، ويستدرجه للمباسطة، وكان رئيسه قد نبّهه إلى احترامه، فمرر كرة رأسية إليه، وأبدى إعجابه بموهبته العلمية، وشكره على خدماته للبلد، لكن عبد العظيم كان قد تحجّر، بل إنه لم يلتفت إليه، حاول مرة ثانية، فربَّتَ عليه، لكن عبد العظيم لم يرفع رأسه، التفت المساعد إلى المدير يستنجد به، والمدير يعرفه، فهما زميلان قديمان من أيام مدرسة الكواكبي الثانوية، فسأله ما إذا كان يريد أن يشرب القهوة أو الشاي، لكن عبد العظيم لم يردّْ، لأنه كان قد تجمد، وهو بحاجة إلى صدمة لإذابة الجليد.
قال المساعد الذي أخفق في إخراجه من صدفته: يعني العباقرة دائماً هكذا. وعمل إشارة بيده تدل على الجنون.
بعد ساعة كان عبد العظيم في فرع الأمن السياسي، وهي المرة الأولى التي يدخل فيها فرعاً للأمن في حياته المعقمة، الغرفة مليئة بصور الرئيس الخالد، وابن الرئيس الخالد، ولم يجد في الغرفة علماً واحداً، والجدار غائب وراء الصور، دخل وهو ممتقع الوجه، كأنه من شمع، وأحس بأنه صار في أبعد نقطة على كوكب الأرض. ابتسم رئيس الفرع مستقبلاً، وقام من وراء مكتبه، ودعاه إلى الجلوس، وجلس بمواجهته تكريماً له، حاول رئيس الفرع بأدواته المعدنية، ومواهبه، فك براغي وجه عبد العظيم، لكنه لم يفلح، لعلها القوقعة التي حبس عبد العظيم نفسه فيها. أخبره المساعد في الطريق، وهو يقله بسيارة الفرع أن رئيس الفرع يريد أن يشرب معه فنجان قهوة.
قال عبد العظيم في نفسه: هذه القهوة قتلت من شباب سوريا أكثر مما قتلت البراميل. وقال: لم لا يصب عليهم القهوة بالحوّامات، فالقهوة سلاح محلل دولياً.
لم يجد رئيس الفرع بدّاً من أن يطمئنه، فقال له:
إن الأمر بشارة يزفها له، فقد وجدت القيادة، أن الوقت قد حان للديمقراطية، وقد اقتربت نهاية المدّة الرئاسية من الانتهاء، وإنه لا بد من مرشح رئاسي، وأوحى له عن جنب، بأنها أوامر خارجية، فإما هي روسية، أو إيرانية.
رفع السيد عبد العظيم رأسه، بحركة كالروبوت، وفي عينيه ذبالة نور.
كتم رئيس الفرع غضبه، وكان مغتاظاً من أناقة عبد العظيم، ورائحة عطر الشيوخ، وقال في نفسه، إن له هيبة رئيس جمهورية، وقال لنفسه وهو يشم عطره، إنه يكره هذه الرائحة، ولو كان بيده الأمر، لأذاقه فنجان قهوة، يعيد له فيها صوابه. واضح أن الرجل خائف، مذعور، لعله غاضب أو مهان، لكن رئيس الفرع يحسّ بإهانة أكبر، مما كان يحسّ المهندس عبد العظيم، لم يحدث قط أن تجاهله أحد ضيوفه، كما يفعل هذا الرجل، ولو كان الأمر بيده لحوّلَ جلده إلى دربكة، وجعله يعوي حتى يسمع أهل قبرص عواءه.
القيادة وجدت أن عبد العظيم يستحق هذا الشرف، وسيكون مرشحاً رئاسياً في الانتخابات، التي ستجري في موعدها. بلّغهُ أن الأمر لن يكلفه شيئاً، فالدولة ستتحمل كل نفقات الحملة، والأمر لا يخلو من مجد، فسيكون في سيرته الذاتية شهادة، أهم من شهادة الهندسة، وهي أنه مرشح رئاسي سابق.
عادت الدماء في شرايين عبد العظيم، تسري ببطء، وخطر له أن يقول، كما دربته أمّه، صغيراً، ودرّبه الشارع، ودرّبه الإعلام، ودرّبته السنون: خسئت، من أنا حتى أنافس الرئيس، هذا شرك بالسيد الرئيس، نعم إلى الأبد. لمّ نأخذ أوامرنا من طهران وموسكو، ديمقراطيتنا تقضي أن يكون الرئيس إلى الأبد، بلا مرشحين، فلا أكفاء له.
أمسك نفسه عن الاحتجاج، وكاد أن يقول: ألم يكن تبليغي برسالة أكرم من سوقي إلى الفرع مخفوراً!
قال: يعني حضرتك تأخذ رأيي، أم هو أمر؟
نطق الرجل أخيراً..
ضحك المساعد، رؤساء الفروع والمخابرات، أبرع من أبطال بقعة ضوء في التمثيل، وكانت ضحكته مفتعلة، وقال: إنه واجب وطني يا أستاذ. أوحى له من غير مصارحة، حتى لا يغترّ بنفسه، أنه من عائلة عريقة، اشتغل أهلها في السياسة والعلم، أيام الإقطاع والرجعية، ولم يذكر أنهم جميعاً قُتلوا، أو ماتوا في السجون غيظاً، أو تحت التعذيب، أو هاجروا.
وخطر لعبد العظيم أن يقول: هذه عملية إعدام. فالموالون في هذا البلد يعبدون الرئيس، ولن يستطيع أن يمرَّ على الحواجز، سيأكلونه بلا ملح، فكيف يتجرأ، ويتقدم لمنافسة الرئيس؟ ثم ماذا لو فاز؟
عاد عبد العظيم إلى البيت بسيارة المساعد أبي علي، ولاحظت زوجته أن زوجها، الذي عاد مساءً، غير الذي خرج صباحاً، ولم يخبرها شيئاً، مع أن هذا الخبر لا يكتم، ويحتاج إلى تسرية وترويح، والمرء بالكلام يطرح شجون نفسه وأدرانها، واستعاد المقابلة، كما كان يستعيد أسئلة الامتحان، ويراجع صحة أجوبته، والعلامة التي سينالها في الفحص، أيام الدراسة، وجد أجوبته صحيحة، وكان قد خطر له أن يقول لرئيس الفرع:
حسناً سأكون مرشحاً رئاسياً، ومن حق المرشح أن يكون عنده جواز سفر.
أن يقول: سأكون مرشحاً رئاسياً، ومن حق المرشح، الذي قد يصير رئيساً، أن يطالب بجثة أخيه، هاتوا جثة أخي، حتى أدفنها وأقرأ عليها الفاتحة، إسرائيل تعيد الجثث للفلسطينيين، حتى لو كان انتحاريين.
قبل شهر صادر حاجز جامع النصر حاسوبي، ولم يعد لي إلا بعد أسبوع، بعد اتصال مع الوزير، وكان مفرمتاً، وكنت قد خزّنتُ عليه حلول آلاف المسائل الإلكترونية.
تدرّع عبد العظيم بصبره العظيم.
ومضت الأيام، وحانت أيام العرس الديمقراطي، ويبدو أن القيادة نسيته، ووجد صور مرشحَيْن اثنين للرئاسة وليس واحدا، تعلّق على الحيطان! وهذا يعني أن القيادة صرفت عنه النظر، أو أن الفروع الأمنية الأخرى، وجدت مرشحين أولى منه بهذا المجد. مرشحان جرعة كبيرة، أكبر من قدرة البلد على الاحتمال على الديمقراطية الواعدة.
في ما بعد وقعتْ ملفات أمنية بين أيدي المتظاهرين، وكان مكتوباً على آخر ورقة في سجل المهندس عبد العظيم: حيادي سلبي، غير مؤهل لمكرمة مقابلة السيد الرئيس.
المدن