… وماذا الآن؟
نهلة الشهال
تتشكل اللحظة الراهنة في سورية حول حدثين. أولهما نجاح النظام في إنهاء بابا عمرو، أي في تدمير واقتحام معقل التمرد هذا، بما يمتلكه من أهمية رمزية وميدانية في آن. وثانيهما الإعلان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن والمتمتع بإجماع دولي، أي بموافقة روسيّة وصينيّة عليه، بل بمطابقته للسقف الذي رسماه.
تتأسس مهمة أنان على هذين الحدثين، بصفتهما يعرِّفان توازن القوى كما انتهى إليه سياق من الصراع الدائر منذ عام. وهو صراع تنخرط فيه بحدة عالية، ومعاً، القوى المحلية والإقليمية والدولية، حتى بات المشهد يسمح بالكلام عن سورية كساحة جيوستراتيجية، فيما نسغ الموضوع – كان وسيبقى – سياسياً/اجتماعياً سورياً، مادته حاجات الناس الملحة، وطموحاتهم وأحلامهم، التي لولاها لما انتفضوا أصلاً، ولا قاوموا آلة القتل والإرهاب، ولا ارتضوا دفع ثمن كانوا يعرفون أنه سيكون على أية حال باهظاً.
إلا أنه توجد حالة غريبة تتعلق بالنقطة التي وصلت إليها اليوم الأمور في سورية وبصددها. فهناك ما يشبه التغافل عن تعريف وتعيين تلك اللحظة الراهنة. تعريفها وتعيينها بصفتها محطة قابلة للتقويم، تحمل متغيرات لحقت بسياق سياسي وميداني هُندس وبني على امتداد الفترة الماضية. يعلم الجميع أن هناك منعطفاً، ويقرون بأهميته. ولكن ذلك العلم والإقرار يختنقان وسط ضمنيات كبيرة، كأن هناك سعياً للإبقاء على المستجدات في عالم المضمرات. فيبقى الكلام حول المنعطف القائم في طور الغمغمة، بلا تحليل لما جرى وبلا استخلاص لنتائج ودروس تسمح بتصويب وجهة الخيارات المقبلة. أي بلا سياسة.
وهذا جهد متوقع من قوى المعارضة السورية على تنوعها، وبالأخص منها من كان فاعلاً ميدانياً، أو هو ادعى ولو إعلامياً مثل تلك الفاعلية، وتصرف على الساحة السياسية الدولية وكأنه يمتلكها، وهمَّش بقية الأصوات السورية المعارضة التي لم تَنسق معه، أو بدا له ذلك كطموح ممكن ومشروع.
ومن المدهش أن يستمر مسلسل مؤتمرات «أصدقاء سورية»، وتُعقد حلقته الثانية اليوم في اسطنبول بعد تونس، قبل شهر، بينما حدث خلال هذا الشهر ما يستوجب التوقف أمامه، ما يمثل تغيراً في المعطيات، ويفترض خروجاً عن البنود المقررة سابقاً. لهذا، تبدو سوريالية تماماً نقاشات «المجلس الوطني السوري» التمهيدية للاجتماع، التي تتناول وثيقة سميت «العهد والميثاق»، تخوض في الشكل المنشود لنظام الحكم المقبل ومبادئه، والالتزامات المستقبلية التي «تقسم» عليها القوى المتناقشة. فالمسألة المركزية، تلك التي ما زالت بلا جواب ولا حل، تتعلق بكيفية التخلص من النظام الحالي! والأفدح أن تلك القوى السورية المعارضة تبدو وكأنها تعتبر أن وجوب التخلص من النظام الحالي، أي شرعية هذا الطموح السياسية والأخلاقية والمبدئية، تكفي لكي يتحقق، فتقول له ثلاث مرات «اختف لأنك بشع»، فيختفي كما في قصص الساحرات.
هذا على فرض النزاهة والصدق، وهما بعيدان عن واقع تلك القوى. بل ثمة مِن بينها من يمر مرور الكرام على معطيات انحسار التظاهرات الشعبية المعارضة بسبب منحى العنف والعسكرة الذي شجعه النظام السوري، والتقطته هي ووقعت في فخه كذبابة فوق قطعة حلوى، ليقول بخفة مريعة: «نمر الآن إلى حرب العصابات»! وهو بذا يعد الشعب والمجتمع بدمار ماحق من دون أن يرف له جفن، ومن دون أي محاسبة للنفس عما آلت إليه الأمور، وعن خطأ المخططات والتوقعات التي بنى عليها وأعلنها ودافع عنها.
لقد تمكن النظام السوري من الاستفادة من ضرورات لم يصُغها هو، ومنها على سبيل المثال ما تفرضه حساسية المكان، ما بين العراق وتركيا وإسرائيل، التي تختزن لواقط حساسة لكل تفجير. ومنها مقدار الإصرار الروسي على حماية موقع موسكو في سورية وعلى إحباط أي نصر غربي فيها. ومنها المصير البائس الذي آلت إليه الأوضاع في ليبيا التي بدت كنموذج لما هو ممكن. ومنها انشغال الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية المقبلة. ومنها أن فرنسا لا يمكنها التفرد بقرارات في ملف على هذا القدر من الخطورة. ومنها أن ضجيج الإعلام وقوة الدعم المالي لا يعوضان كل ما عداهما… واللائحة طويلة. فلنتذكر أن من كان يقول منذ أشهر، بناء على هذه المعطيات وليس على الرغبات أياً تكن، إن التدخل العسكري الخارجي في سورية مستبعد تماماً، كان يُنعت بأشنع النعوت، وكأن الأمر يتعلق بـ «فزعة عرب» تمثل توضيحاته وتحفظاته تخلفاً عنها.
وتمكَّن النظام عند تقاطع كل تلك المعطيات من شن حملاته القمعية ذات المنسوب الدموي المريع، وصولاً إلى بابا عمرو، التي يزورها بشار الأسد اليوم متبختراً فوق أنقاضها، متبجحاً بكلام لا معادل واقعياً له. وإن كان ذلك لا يمثل بحال نصراً للنظام السوري، فبحسمه الأمر عسكرياً في بابا عمرو على تلك الشاكلة، إنما يضع نفسه أمام ضرورة الإجابة عن: «ثم ماذا؟». فلن يكون من الممكن استعادة السلطة كما لو لم يحدث شيء (فهذا أيضاً من قَصص الساحرات)، ولا مفر أمام النظام من تقديم تصوره عن المسار اللاحق. فحتى موسكو، حاميته المباشرة، تقول له ذلك، بل تدفعه إليه! وهو، وإن حاول الاقتصاد في تنازلاته، فإنما يدخل على كل حال في صراع سياسي شديد يتعلق بوجوده وفي شكل السلطة نفسها. ولا ينقذه من هذه الورطة إلا… المعارضة السورية المهيمنة. فهي لا تمتلك أي تصور سياسي، ولا ترسم أي استراتيجية، وتخلط بين هذه الأخيرة وبين الإعلانات الخطابية والمبدئية، وبينها وبين «فضح» جرائم النظام، ولا تبلور خططاً ولا تكتيكات متصلة باستراتيجيتها. والأنكى، أنها كلما انكشفت نواقصها وبانت قلة نضجها (بالمقارنة مثلاً مع المعارضة اليمنية)، غلَّفت ذلك بمزيد من اللفظية الفارغة، مدعية الجذرية، وصراخ «إلى السلاح!».
عندها يرتاح النظام، ويخوض منازلة على أرض يجيدها. يقال إنه سيستنزف؟ والحقيقة أن سورية شعباً ومجتمعاً واقتصاداً هي من سيدفع ثمن هذا المنحى، خراباً لا يوصف. هل يعني ذلك إبقاء الأمور على ما هي عليه؟ على النقيض تماماً، فهذا الاستمرار يستحيل بفعل درجة القمع والدموية اللذين يمثلان انكشافاً حاداً للنظام. وإنما السؤال ينحصر في الكيفية. كيفية تحقيق التغيير ومقتضياتها.
الحياة