وهم التخلي عن طهران/ رائد جبر
مرة أخرى، برز التباين بين موسكو وواشنطن في تفسير قرارات واتفاقات دولية، ليعيد خلط الأوراق ويعرقل التقدم نحو عمل مشترك في سورية. والاتفاق على إنشاء منطقة خفض التصعيد في المنطقة الجنوبية، الذي شكل مثالاً نادراً على مقدرة البلدين على القيام بجهد مشترك في الملف السوري على رغم التعقيدات المحيطة بعلاقاتهما، غدا في مهب الريح. مع كل ما يعني ذلك من احتدام التنافس على مناطق النفوذ في أشلاء سورية.
قبل ذلك، قوّض الخلاف على تفسير بنود بيان جنيف مساعي البحث عن تسوية سياسية مبكرة في ٢٠١٢. إذ لم تقرّ موسكو في أي مرحلة أن صياغة «هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة» تعني انتقالاً شاملاً للسلطة تحت إشراف دولي. وعندما تبنى مجلس الأمن البيان في قراره ٢٢٥٤ واعتبره «أساس أي عملية سياسية» قادت موسكو عملية «تفكيك» بنود القرار وإعادة ترتيب أولوياته وفق تفسيرها الخاص. فغدت الإشارة في مقدمة القرار إلى أن المجلس «أحيط علماً باجتماعات القاهرة وموسكو» شرطاً ملزماً من وجهة نظر موسكو لضم منصتي القاهرة وموسكو إلى وفد المعارضة. وتشجيع النظام على إفشال مسار جنيف باعتبار أن هذا «الشرط» لم يتحقق. بينما تجاهلت بنوداً عدة طالبت بوقف الانتهاكات ضد المدنيين وإطلاق السجناء وتحسين الأوضاع الإنسانية كشروط أساسية لإطلاق عملية مفاوضات جادة.
والتلاعب بتفسيرات الاتفاقات الدولية لا يقتصر على المسار السوري، فاتفاقات مينسك للتهدئة في أوكرانيا تعرضت لمصير مماثل. وما زالت تراوح بعد مرور سنوات على التوصل إليها بحضور كل أطراف الأزمة.
الخلاف حول تفسير اتفاق الجنوب السوري له دلالات مهمة لجهة التوقيت ومضمون السجالات. لأنه من جانب يعكس احتدام التنافس على تقاسم مناطق النفوذ في سورية في مرحلة التحضير إلى ما بعد «داعش». وهذا أمر لم يعد جديداً. خلافاً لجوهر الخلاف الذي أبرز تراجعاً روسياً عن تفاهمات حول مصير الوجود الإيراني في سورية. الجديد هنا. لأن موسكو وجهت خلال الشهور الماضية رسائل عدة واضحة، بعضها جاء على لسان الوزير سيرغي لافروف ونوابه بأن «كل القوى الأجنبية عليها أن ترحل من سورية في مرحلة لاحقة».
وتم في أكثر من مناسبة تحديد إيران بالإشارة إلى أن «الوجود الإيراني في سورية مرتبط بالوضع الحالي ومن الطبيعي ان يناقش فور ترسيخ عملية تسوية سياسية». أكثر من ذلك، فإن موسكو أعطت إسرائيل تطمينات واضحة بتقليص الوجود الإيراني في بعض المناطق وخصوصاً في الجنوب، قبل انتظار نتائج العملية السياسية. ما الذي تغير فجأة ليقول لافروف إن اتفاق الجنوب «نصّ على خروج القوات الأجنبية وليس إيران أو القوات الحليفة لها»؟! ومع غرابة المقاربة التي يجريها لافروف هنا لجهة ان إيران والقوات المدعومة من جانبها لا تعتبر بالنسبة إلى الروس «أجنبية»، ثمة من يقول إن الموقف الجديد مرتبط بعنصرين أولهما قناعة روسية بالحاجة الى الحليف الميداني الإيراني لاستكمال التقدم نحو حسم عسكري ينتهي بعملية سياسية صورية. وثانيهما انحسار رهان الديبلوماسية الروسية على تعزيز آفاق للتعاون مع واشنطن. ويبدو هذا جوهر التحول الروسي نحو التراجع عن اتفاقات سابقة والتقدم لفرض واقع جديد. يفسر ذلك كلام الوزير الروسي عن أن «بعضهم يعتبر الجيش السوري كله حليفاً لإيران فهل عليه أن يستسلم ويرحل»؟
لم يسبق لموسكو أن وضعت الوجود الإيراني في سورية في المكانة والحضور القانوني ذاتهما على الأقل للجيش السوري النظامي. المهم في كل التطور أنه يعكس انتقال موسكو من تعطيل مجلس الأمن سابقاً إلى تقويض الاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف والسعي الى تغليب رؤيتها، لكن الأهم، أن فكرة تفكيك التحالف الروسي الإيراني في سورية وفِي المنطقة عموماً، تبدو أقرب من أي وقت لأن تكون وهماً كبيراً.
الحياة