ويتراءى الوعي الطائفي للطائفيين، وعياً بالثورة/عزيز تبسي
يفيض الحديث الخفيف، أن هذه الطائفة لا سواها هي الوطن، ووفق كتفيها وصدرها وعجيزتها وأردافها وسيقانها تُفصّل سراويله وتنانيره ومعاطفه، وتحدد معاييره الجمالية،وهويته. حديث مسهب، كأنّه صدىً تهافته الهواء، لمقولات سابقة في الزمان والمكان، إستسهلت الكلام عن كل ما يقع تحت فكيها، من المظلوميات الثابتة والطارئة، ومنحه أختام مما يتهيأ لها اليقين، في عجز مؤكد عن تفسير الإضطهاد والظلم، وإجتراح الوسائل للخروج النهائي منهما. تنطلق من التاريخ وتعاقب أحداثه ووقائعه لتنتخب منها ما يخدم فرضياتها، إلى الأوطان حين صارت جغرافية صنعيّة، وحين كانت جغرافية طبيعية. وإمتدت بنوافلها إلى الإنتفاضات الشعبية العربية، أحاديث تحاول جهدها أن تكون موزونة ، وتعجز عن إدراك مهمتها، لفقر في العبارة والمعرفة والمقاربة، ولإنحياز عقائدي ثابت لا يتزعزع، إلى مواقع السلطات الحاكمة، وطارئ إلى مواقع الحركات الشعبية الثورية. أسس لها التهافت ذاته بعبارات، أطلقت قبل عقد من الزمن في وصف طائفة أخرى في العراق، وقبل نصف قرن في لبنان، لتثبيت الوصف ذاته في طائفة ثالثة، وقيلت قبلهم جميعاً لبضعة عشائر في شرق الأردن ونجد والحجاز. ليؤكد من يطلقها ويسوقها في وعيه الطائفي-العشائري العميق أن هذه الطوائف-العشائر وسلطاتها هي الوطن، ولا يكون إلا بها، تلتصق به دوماً وتعلو عليه أحياناً، لتقوده من ربيع إلى ربيع، ومن مجد إلى أخيه. وما إفراط الحديث عن الطائفية والمظلومية الطائفية، والثبات في موقعهما، كأنه لا قبلهما ولا بعدهما، متيبساً على فكرة العصبية، بها يفتتح التاريخ الإجتماعي ويدور حول نفسه، ليعبّر عن عجز معرفي-سياسي، في عدة قضايا: -عجز تكويني، وهو يقوم على إعتبار هذه الطائفة بعينها، كلية متماسكة قائمة بذاتها، تلتئم تناقضاتها وتتحد وفق زيف خطاب طائفي، يعمل بتهافت وضِعة على توحيدها، وحجب التباينات العميقة والسطحية التي تتفاعل في أعماقها، والتي تحجب المصلحية والجهوية وحزمة الخيارات المؤسسة على التطور التاريخي والوعي الإجتماعي الملازم له، فضلاً عن المفاضلات المنبثقة عنه. وكأنما ليتأكد مرة بعد أخرى ،أن الوعي الطائفي عاجز أن يكون وعياً وطنياً، محكوم بشرطية تاريخية جديدة ،أنتجتها البورجوازية التبعية، في جغرافيا محددة، وفي لحظة تاريخية التي يصنع الشعب إنتفاضته الثورية. -عجز عن فهم السلطة السياسية الواجب إسقاطها كلياً أو جزئياً، أو حصارها أو إرباكها بمقولاتها وممارساتها وإنتزاع مكاسب تقوي متن الحركة الشعبية وتدفعها نحو الأمام،ويشمل المعرفة الواضحة بأساسها الطبقي وبنائها المصلحي وتحالفاتها، فضلاً عن حزمة الإمتيازات التي يتقاسمها أعيان الطوائف، تحت ثقل هيمنة ثابتة لإمتيازية طائفية تعلو على الجميع، لتوفر لهم بتبادل المنافع وتوزعها، الأسس القانونية لنشاطهم الإقتصادي، والحمائية الأمنية والقضائية والمالية المنبثقة عنه. وحين تنبثق من أعماق المعانات والمظلوميات حركة إحتجاجية، أو وثبة ثورية، أو خروج على السلطة…يقف هؤلاء ضدها في وعيهم العبودي العميق، يقفون ضد كل من رفع صوته أو جند قلمه في سبيل رفع المظالم وسار في طريق المساواة والعدالة ……من الحركات التي إحتجت على مظالم السلطة الأموية وإستمرت بأشكال وإصطفافات أخرى في السلطة العباسية، وتجددت بعدهما في توالي السلطات المتعاقبة …مما يدفع للبحث عن الشروط المعاصرة التي ساهمت بوضع سلالة هؤلاء النخاسون، لا ليقفوا مع حركات ثورية فحسب، بل ليكونوا غرّتها وذؤابتها…وطليعتها الإفتراضية. -عجز عن فهم الأسباب العميقة التي حركت الكتلة الشعبية المنتفضة، ودفعهتا للإستمرار لأكثر من عامين، رغم الأكلاف المهولة التي قدمتها. -حجب العناصر المشتركة التي تجمع هذا الخطاب الأيديولوجي، مع الطغمة العسكرية ومشروعها السياسي والإقتصادي، ليظهر العجز المؤكد لحامليه عن تقديم بديل وطني ثوري عن المشروع الذي عملت به الطغمة العسكرية منذ خمسة عقود، والتحولات العميقة التي حصلت فيه، وساهمت في تبلور وهيمنة إحتكارية بورجوازية طفيلية على الإقتصاد المحلي، وتهميش متواصل للدور الإقتصادي الذي كان للدولة الرأسمالية، ووظائفه في توفير الحماية الإجتماعية والخدمية “التعليم-الصحة-دعم حزمة من السلع الإستهلاكية-حق العمل…”. هذه النزعة الوصفية-السطحية، صارت منذ وقت تتخذ طابعاً إتهامياً إلى كل من لا يشاركها النوافل التي تلوكها، والتي باتت تعكس بوضوح عقم خطاب المعارضة الإسلامية وبعض حلفاؤها، وهم يسعون لتثبيتها، من خلال التأكيد عليها ورفعها إلى مرتبة أحادية مرجعية، وعاملاً ثابتاً من العوامل التي تحرك التاريخ والوقائع، يفعلون هذا إستكمالاً لهجوم طائفي أعمى، لا يبصر أهدافه، ويتقصد صنع الإضطراب وتثبيته، في الأهداف الثورية، كان قبل الإنتفاضة الشعبية ويستمر بعدها، ليؤكد حالة الفرار إلى الإمام، والقفز فوق الوقائع والحقائق، ونتساءل وفق منطقهم ذاته، ألا تعتبر مقاربة “هيئة التنسيق الوطني”، والعديد من المرجعيات الإسلامية الوازنة، مقاربة من موقع سني آخر، له وعيه ومصالحه المتفارقة عن ذاك الخطاب الذي يلوكونه. بقي هؤلاء أسرى مدح النخاسة والنخاسون، لهم في بنيانهم موقع العبيد، عاجزون عن نقد العبودية كنظام إجتماعي، فيستسهلون نقد النخاس المفرد، ويتعزز حين يتراءى لهم من غير جماعتهم أو ملتهم، حين كان سادتهم وأجدادهم الأيديولوجيين، يستعينون على الأمويين بالعباسيين، وعلى أهوال العسكر البويهي يالعسكر السلجوقي ، وعلى الفاطميين بالأيوبيين، وعلى الأيوبيين بالمماليك، وعلى المماليك بالعثمانيين.. وعلى هؤلاء بالإنتداب الإمبريالي الحربي، وعلى هذا بإنتداب إمبريالي حربي آخر. ويجاهدوا لنزع الإسلام عن الحركات المناوئة لخطابهم الطائفي، لإظهار الحركة عارية، متجردة من إسلامها، وتحال مجموعتها الأقوامية بخفة إلى أصولها ما قبل إسلامية، مجوسية- أو ما بعدها صفوية.. أو إلى جماعات إسلامية كان لها تاريخ –تتنكر له الآن بعد أن صارت في السلطة-في الخروج على السلطة الحاكمة، الخوارج-الروافض…ونزع الله من أسمائها ،لتغدو بإسم الآلهة العربية التي سبقت الدعوة الإسلامية: اللات، أو تهميشها قومياً بتحويلها من شعوب عربية، إلى أعراب ،أو عربان…. وفرت الإنتفاضة الشعبية الثورية في سوريا، أساساً مادياً صلباً، لإنتاج وعي وطني ثوري، ينهض بالقيم التحررية ويعزز وجودها في متن الخطاب الثوري، تستلهم الإضطهاد والظلم والإجرام وحروب الإبادة وأهوال القمع في المعسكرات الفاشية وسجونها.. لترتفع به إلى علياء الوعي الثوري، بمنحه مضامين جديدة، تكتسب ملامحها من الكفاح البطولي للكتلة الشعبية المنتفضة، تَتعّرف به وبثقل المظلومية وفداحة أهوالها.. وتؤسس لميثاق ثوري تحرري، تستلهم من الدعوة الإسلامية ذاك الهبوب الإعصاري المشبع بمثالية روح المساواة والعدالة، والإقفال الصلب على التشرذم والفرقة بين أبناء جلدة المظلومين والمضطهدين والمهمشين. لكن أين تكون موقع هذه المهمة الثورية، عندما يهيمن الإسلام السياسي الطائفي الظلامي، وحلفاؤه الصغار على وسائل الإعلام، ويعملون بشكل منهجي لإقصاء الخطاب الثوري، مبقين ساحة الصراع الإيديولوجي رهين الفاشية الطائفية الحاكمة والفاشية الطائفية التي تجاهد للإستعانة بالإمبريالية وعسكرها لتكون بديلها. وتكرس عجز هذا الخطاب في ممارسته العملية، عن تحريك الفئات المدينية من البورجوازية الوسطى والصغيرة وإستمالتهم، عله ساهم في توسيع الحيز البشري في المشاركة بالإنتفاضة، بما يشمله ذلك من معرفة للإمكانات الواقعية للحركة الشعبية وسيرورتها، إلى أهداف الإنتفاضة الشعبية، يمكّنهم من تجاوز خطاب الطغمة العسكرية وممارساتها القمعية والطائفية في آن، من خلال الرد عليه بخطط سياسية وتنظيمية وبخطاب أيديولوجي وطني متماسك، يؤسس البناء لإستراتيجية وطنية، ويعكس تطلع الكتلة الشعبية المنتفضة للحرية والعدالة والكرامتين الإنسانية والوطنية.
حلب آب 2013
خاص – صفحات سورية –