يا طوائف المعارضة السورية
صالح سناري
لن أضيف الى معلوماتكم أي جديد إذا أعدت على أسماعكم أن الثورة السورية انطلقت عفوية ودون قيادة مركزية أو محلية حتى، لأن المؤهلين لمثل هذا العمل جرى قمعهم بانتظام، أو استؤصلوا نهائياً. وهذا من أكثر الأسباب أهمية التي أتاحت اغتيال الثورة، وهذا هو ما أريد تذكيركم به، اغتيال الثورة، حيث يخيل لي أن جهودكم منصبة على تأجيل دفنها أملاً بأخذ ثأرها ممن اغتالوها، وهي عادة موجودة عند قبائل قحطان كلها.
لا تريد هذه الرسالة الاساءة الى مشاعركم الوطنية التي لا أشك بصدقها، وذلك أن النتائج المتواضعة التي أحرزتموها سببها عدم التمرس بقيادة حركات الجماهير للأسباب التي نوهت بها آنفاً.
كل ما أرجوه منكم الاقلاع عن مشاغلكم الراهنة، من أجل التفرغ كلياً، (كأفراد أولاً) لإنجاز هدف واحد لا أكثر، لأن تعدد الأهداف في مثل واقعكم المتشرذم وامكاناتكم المحدودة، يقلل من حظوظ ادراك أي هدف. والهدف الوحيد الذي أعنيه هو انصرافكم الى اعادة السوريين المشردين كرهاً أو طوعاً، الى منازلهم برغم علمي أن كثيرين منهم لن يجدوها حيث غادروها. تعرفون، بلا ريب، أن “النظام “قد وضع استراتيجية دقيقة منذ نصف قرن على الأقل، من أجل الاستيلاء على سوريا، ولئن خيل لكم انه تلقى هزائم عسكرية حاسمة في السنتين السابقتين فمعنى ذلك أن حجم أوهامكم أو تفاؤلكم كان أكبر من اللازم.
أرسى النظام قواعد استراتيجيته من مراقبته الدقيقة لمشروع آخر سبقه في الاستيلاء على بقعة مهمة من الوطن الفسيح، حتى أنه استنسخ بعض الاجراءات كما هي الى أن وجد نفسه، نتيجة التطورات التي نجمت من نجاح المشروع الانموذج، يلتقي موضوعياً بأصحاب تلك الاستراتيجية من أجل الحفاظ على حق حكم المقاطعة السورية الى الأبد. ذلك أن ظهور هذا الشعار الى العلن تزامن وانجاز اتفاقه المكتوب وغير المنشور مع المشروع الانموذج.
لا يهمني هنا الاستنطاق الاحداث الظاهرة للعيان، ولا أحكي الا في السياسة، ضارباً صفحاً عن سوالف الخيانة والتكفير وما في حكمها.
ان افراغ البلدان من أكبر عدد ممكن من سكانها، يشكل ضرورة لكل مشروع مماثل. وإحباط هذا الأسلوب مهمة خطيرة جداً يؤدي نجاحها الى انزال ضربة حاسمة ضد خطط “النظام”. لا يخفاكم أن النظام وضع استراتيجية بكاملها موضع الاختبار العملي، وبالذخيرة الحية كما يقول العسكريون، منذ عدة عقود من السنين، في حماه وفي غيرها أيضاً. ذلك أن تفاقم الخلل السكاني يحتاج الى وسائل متنوعة تحد من آثاره.
ولست أدري اذا انتبه علماء الاجتماع السياسي في صفوفكم الى أسلوب هادئ بلا ذخيرة ولا انفجارات، تجلى مع التصحيح. وبعد أن كان الحصول على بطاقة خروج الى لبنان أيام “الشباطيين” يعد انجازاً مهماً، تولت أجهزة النظام “تيسير” خروج الشباب من بلادهم، نتيجة للتضييق عليهم وحرمانهم من العمل، وتخريج أفراد غير مؤهلين إلا للبطالة بأشكالها، وقمع حركاتهم السياسية وحصرهم في كرة القدم وملاعبها. كما حرموا من نتائج التنمية الاقتصادية والثقافية الحقيقية، بإفساد المشاريع العامة، كبيرها وصغيرها، وحصر فوائدها في فئة محدودة معروفة سلفاً.
ولم ينس النظام اغلاق أبواب الأجهزة الحيوية لاستمراره، في وجوه أبناء البلاد، الا اذا كانوا يدينون له بالطاعة العمياء. واذا وضع بعضهم في وظائف ذاتي أهمية، فالحصار المفروض عليهم يجعلهم (بلا ولاشي) اذ حكينا مثل زياد الرحباني.
ألا تلاحظون أن أعباء الناس في “المملكة السورية” قد ألقيت طوال عقود على عاتق دول المهجر، في الخليج العربي بخاصة، وصولاً الى بقاع الكوكب كله باستثناء القطبين المتجمدين (أتمنى ألا يلقى قسم من هذا العبء قريباً، على عاتق القطب الثالث الديمقراطي بعد تبلوره).
لا يمكن لمراقب تطور تهجير السوريين الا أن يتوقف عند دور “الفصائل المسلحة بتنوعاتها، “فالاستراتيجية” التي اتبعتها هذه الفصائل بالاحتماء في البلدات والمدن المأهولة من أجل التصدي للمدرعات والمدفعية والطائرات، بالبواريد، بالاعتماد على السمعة الحسنة للكلاشنيكوف على ما يبدو، هذا الاحتماء يدل الى أن استراتيجية المقاومة قد رسمت في غرفة العمليات المشتركة الروسية الايرانية السورية لا في أي مكان آخر، ويكفي النظر الى نتائجها (تهديم البلاد وتشريد الناس) للتساؤل لماذا لم يلجأ الثوار المسلحون الى أسلوب آخر يتفادى التحصن في الأماكن المأهولة…
خطة تدمير البلدان موضوعة من عقود كما أسلفت، في حال أقدم الناس على الثورة. ورأينا كيف أدى لجوء النظام الى الأسلحة الثقيلة جداً، دوره المرسوم في افراغ المدن من سكانها، هذا أولاً أما الهدف الثاني المهم الذي أدركه فهو القاء عبء ايواء الفارّين واطعامهم وطبابتهم وتوابعها في ظروف العقوبات التي فرضت على سوريا، – القاؤها على عاتق دول الجوار والمحسنين وما أكثرهم في هذه الدنيا. لقد أظهرت دول الجوار قِصر نظر استراتيجي منقطع النظير، بقبولها تحمل العبء الفادح. ولو ان أحداً من قياداتها نجح باكراً في ادراك نتائج برنامج النظام على المدى البعيد، لسارع الى بلاط ملك دمشق ورابط فيه مع باقي زملائه من مسؤولي دول الجوار رافضاً مغادرته الا بعد عودة اللاجئين من بلاده الى بيوتهم. لأن هذا المطلب ليس بوسع ملك دمشق رفضه طويلاً. لن أسترسل في عقد مضاهاة بين مأساة اللاجئين السوريين، ومأساة شعب آخر هجّره نظام مماثل ما زالت مئات الألوف منه في المخيمات بانتظار العودة، لأنكم ستقولون لي إنني فقدت ملكة التفكير السليم. لذلك وتفادياً للجدل أرجو أن تؤجلوا بلوغ أهدافكم الاستراتيجية الموهومة وأن تتفرغوا لإعادة الناس الى وطنهم.
ماذا سيقول لكم مؤتمر اعضاء اصدقاء سوريا الألداء، عندما تواجهونهم بموقف موحد وراء مطلب واحد: لنعمل سوياً من أجل ارجاع السوريين الى الوطن؟ أليس هذا أفضل من نشر غسيلكم المهترئ، غسيل خلافات طوائفكم الثورية للمرة الألف أمام الأصدقاء الألداء الذين يتخذون من تعدد مناهجكم وأفكاركم وتحاليلكم وتصوراتكم لمستقبل وطن ضائع، يتخذون منها ذريعة للتفرج على أكثر الجرائم ضد الانسانية وحشية التي عرفها التاريخ الحديث، وإلقاء معاذير امتناعهم عن التدخل على عاتق بعض شعاراتكم الموروثة من أيام المراهقة السياسية.
اطلبوا من رؤساء الدول المتاخمة أن يرابطوا في دمشق من أجل اعادة الناس الى وطنهم. قولوا لاعلامكم المريض كإعلام النظام ألا يصدع رؤوسنا إلا بالحديث عن (العودة). واشتروا لهذا الاعلام تسجيلات جديدة رقمية لقصائد عاصي ومنصور وفيروز: سنرجع يوماً وعائدون وغيرها، ولو أنها لم تفلح في اعادة الفلسطينيين الى وطنهم. ذلك أن أعمال الرحبانيين بما فيهم الوريث وصاحب الموقف الرديء من الثورة السورية.. أقصد “زياد الرحباني” أرقى فنياً بما لا يقاس وأفضل انسانياً مما يكتبه شعراء ما بعد الحداثة على هامش الثورة.
[ كتبت (طوائف) المعارضة، ولم أكتب (أطيافها) ذلك أن أطياف قد تؤدي معنى خيالات أو أشباح. ولا ننسى ان طيفاً مهماً من أطياف المعارضة هو جماعة طائفية بامتياز، انخرطت في ثورة مناهضة للطائفية.
()كاتب سوري- (مخيم الزعتري)
المستقبل