يا قليل التربية.. العسكريّة/ عدنان نعوف
يا قليل التربية.. العسكريّة هل كنت تشعر أنّ المدرسة عبارة عن ثكنة عسكريّة؟
كم جميلٌ أن تتخلّص ولو للحظةٍ من الإحساس بأنك دجاجة، وكم مُخيّبٌ أن يكون البديل خروفاً. آخِرُ ما قد يَخطُر في بال طالبٍ استسلمَ لمقصّ مدرّس التربية العسكرية، أن يكون تشويهُ المظهر نابعاً من الحرص على “النظام”. ذلك أن ما كان يحدث هو تحويل الطلاّب إلى ”مينيونز” Minions؛ أي تلك المخلوقات القادمة من عالم الأنيميشن والتي تتشابه في كل شيء، وعندما يتميّز أحدٌ منها تراه منقوصاً؛ كأن يكتفي بعين واحدةٍ مثلاً.
خصلاتٌ قليلة لا ضفائر، هي ما قام المدرّس بجزّه من شعري في ذلك الحين، فلماذا كلّ هذه الجلَبة؟ “هذا الوطن غالٍ، وهذا الوطن عزيز”، فهل نبخل عليه ونحن نعلم أن الشَّعر “بضاعة مخلوفة”؟
تبريراتٌ كانت تحضرُ بقوّة في ذهني. لم تكن تفارقني إلا بعد أن تُحوّل المهانة إلى نكتة، كحالِ جميعِ مَهاناتنا التي سرعان ما تتبعها جرعاتُ كوميديا تُسهّل ابتلاع ما يصعب تناوله.
في فترة التسعينات من القرن الماضي كان يكفي أن يَدخُلَ طالبُ الإعدادية أو الثانوية إلى صالون حلّاق في سوريا ليقول له: “بدّي حلاقة عسكرية”، فيحصل على “الموديل” المناسب بالمقاييس المثالية التي لا تثير أدرينالين الخوف والغضب في المجتمع المدرسي.
كنّا نعيش “التجانس” في أحد تجلياته وجوانبه من دون أن ندري. تناغمٌ يُقصي الاستثناءات وكأننا حبّات عَدَس تخضع لتنقية وتنظيف مستمرّ. المهمّ أن يُمثّل الفرد النموذج السائد، وألاّ يُعرّض نفسه لمخاطر الألوان.
“لا غنيّ ولا فقير. لا فوارق طبقية أو مادية… كلّنا أولاد تسعة”.
كباقي مظاهر الحياة السوريّة كانت عسكرة المدارس مُسوَّغَةً ومُصفّقاً لها جماهيرياً، وتحظى بمباركة الناس الذين يتغنّون- في مونولوج مكرّر- باللباس الموحّد، كمَن يتعاطى مادّةً مخدرة وينتشي بها.
المساواة وفق المنطق ذاته. “لا أحدَ أفضل”، ثم تتوقف عن الكلام حاذفاً كلمة “مِنْ” تجنّباً للمفاضلة. الجميعُ سواسية في الانحناء. إنه ميدانٌ آخر من ميادين سوريا يعيش تطبيقاتٍ عمليّة للقاعدة العسكرية المعروفة بـ”العقوبة جماعيّة والمكافأة فردية”.
عند باب المدرسة كان ينتظرُنا يومياً ما يشبه بروفة لحاجز “مخابرات جويّة” من خلال عملية التفتيش على الهندام. لم يكن هناك عناصر أمن وإنما مُدرّس عسكريّة سلاحهُ العنف اللفظي والجسدي، ومهمته القبض على المخالفين المتأخرين عن وقت الدوام، أو أصحاب العلامات الفارقة؛ غير الطبيعية المنشأ.
“ليش لابس بوط رياضة بدل الحذاء العسكري يا دبّ؟”. لم أعرف بما أجيبه، فتذرعّت بأن الحذاء يتم إصلاحه عند الإسكافي حالياً.
لو عاد بي الزمن لتغلّبتُ على خوفي، ولربما أجبته بأنني”بهذا البوط أقتدي بوصايا راعي الرياضة والرياضيين”. هههه يا للهذيانات. لو قلتُ ذلك حينها لجَعلني عبرةً لمن اعتبر، أو لتمّ تحويلي إلى شعبة الأمن السياسي بتهمة ازدراء وتحقير الذات الأسديّة.
“شعبة، شُعب”! لحظة أين سمعتُ هذه اللفظة؟ إنه المصطلح ذاته الذي كنا نطلقه في المدرسة على المجموعات التي تندرج في مرحلةٍ واحدة مثل (الصف التاسع/ الشعبة الثانية). أيُّ مصادفة لغويةٍ هذه!
مصادفاتٌ أخرى تتداعى؛ تَتدافعْ. بالدّور لو سمحتم! تفضّلي أنتِ.
-هل كنت تشعر أنّ المدرسة عبارة عن ثكنة عسكريّة؟
-هي كذلك. لكن مع ملاحظة أن الدوام فيها إداري، والمبيت في المنزل! للدقّة والأمانة كانت تبدو وكأنها ثكنة اضطرّ ضبّاطها لتطعيمها بمنهاج دراسي شامل توفيراً للوقت اللازم لإعداد رجال المستقبل وعمّاله وفلّاحيه و..(..). لا بأس إذاً بالتحصيل العلمي لـ “الجنود” الصغار لتأمين فرص معيشية لاحقاً.
لقد تمّ وضع المحتوى العسكري فوق المدني أو العكس. بالنتيجة استطاع “البعث” خلط الماء بالزيت – مع أنهما لا يمتزجان- في سبيل إنجاز الهندسة الاجتماعيّة المطلوبة لتدجين الأجيال.
هل من تفسيرات أخرى لهذا الهَوس بالعسكرة؟ مممم قد يكون ما جرى تعويضاً عن “قلّة التربية العسكرية” لدى الشعب السوري في مقابل مدنيّة زائدة عن الحدّ تراكمت عبر التاريخ! هذا احتمال وارد.
يمكن أيضاً أن نضعَ التجربة التعليمية السورية في لعبة الفوارق مع التجربة النازية لاستنتاج درجة التطابق بينهما، لكنّ واقعةَ زيارة الأسد الأب إلى كوريا الشمالية في السبعينات، واستعارته أساليبها التعليمية حينها تحضُر بقوّة فوق كل الاستنتاجات. لا داعي للسؤال المتذاكي:” ما الذي أعجبهُ عندهم؟”. هل كُنتَ ستفوّتُ فرصة الجلوس على العرش بلا قلاقل أو منغصات؟ فضلاً عن وجود خزانٍ من القرابينِ البشرية الجاهزة للإقحام في أي معركة؟.
وصفة مضمونة ولا شكّ كي تُعدَّ شعباً “طَيِّعَ الأَعنَاقِ”!، وهي متاحة وغير سريّة لمن يرغب من أنظمة العالم، وما على الطبّاخ إلا الالتزام بالمكونات والمقادير.
في هذه النماذج يصبح النافلُ مُهمّاً والهامشيُّ مؤثراً. ذلك ما تجسّد بصورة أساسيّة في نصوص لا تساوي قيمة الحبر المُستخدم. كتابٌ لا يشبه الكتُب كان مُقرّراً في المنهاج يتضمّن موضوعات ثابتة ستتكرّر كثيراً (التحية العسكرية، الرُتب، النظام المنضمّ، الكلاشينكوف، القنبلة اليدوية، القناع الواقي…). طبعاً لا مَلل مع المحتوى النظري طالما أنه جزءٌ من حياة الطالب المفعمة بالمعسكرات ودورات الصاعقة والإعداد النضالي، فالإنسان يولد في سوريا كي “يناضل”، ولا تسأل عن السبب!
كلّ هذه المعارف قادرة على صنع مشاريع مقاتلين، لكنها بقيَت مركونة على باب ذاكرة الطلاب خلال سنوات الدراسة، ليَكنُسُوها خارجاً في أقرب فرصة. ولو حدث وحملتَ شيئاً منها إلى خدمتك الإلزاميّة فاطمئنّ! لن تلقى الثناء على وفائك لعلومك هذه. ما يمكن أن تأخذهُ “زوادةً” نافعة لخدمتك الإلزامية لاحقاً هو إتقانك لدور عريف الصف في المدرسة، فهذا الدور المرتبط بضبط الوضع وتسجيل أسماء المشاغبين آنذاك كان أفضل طريقة لتشكيل إنسان يجمع في شخصه ميزات القيادة والوشاية والحرص على المصلحة العليا. إنه مشروع مُخبِر “فسفوس” ولا فخرُ!.
تلك صور من زمن “فائض العز والشموخ”. حين غادرَتنا قُلنا إلى غير رجعة. لكن في هذه البلاد لن تُخمّن ما يستطيع “البعث” فعله حتّى بالمظاهر البائدة! كأنْ تسمعَ دعواتٍ لإعادة التربية العسكرية إلى المدارس على وزن الدعوة الشهيرة لـ “الجيش السوري” (أمام الكاميرات) للضرب “بيدٍ من حديد”.
أن يتمّ تشخيص وضع الجّيل بل المجتمع على أنه فوضوي ومشاغب و”ما بتلبقلو الديمقراطية” ذلك يعني بالضرورة تقديم العلاج المناسب. هل هناك حلّ غير البدلة الخاكي وتقبيل الحذاء العسكري لإخراج شياطين الحريّة من العقول؟ لا أدري إسألوا “الدكتور”.
المدن