يصر النظام على إسقاطه
محمد زكريا السقال
شهران والشعب السوري منتفض محتج على كل الظلم والقهر والتهميش الذي عاناه ما يقرب الخمسين عاما. صحيح ان الشرارة انطلقت من تونس فاستجابت لها كل جوانب الوطن العربي، والشعب السوري لم يكن خارج الحياة ليطلق الشرارة من أجل كرامته وحريته وهو الجدير بها ويمتلك كل الأسباب المحفزة والواجبة للمطالبة بها، فهو بالأساس أمام سلطة غير شرعية ومارقة، وقد تعامل’هذا الشعب معها بسلم وهدوء، درءاً للمخاطر وللكثير من الأسباب، منها متابعته كل ما يحيط بالمنطقة من تعقيدات ومشاريع استباحتها، وثانيها حالة من الانتظار التي عقبت وراثة الأسد لموقع أبيه في رئاسة الدولة، الذي بدوره وعد بإصلاحات تعيد الحياة السياسية الى البلد وتعترف بالرأي الآخر وتخفف من وطأة الحياة الأمنية الاستخبارية، التي هيمنت على كل شيء بوطن مثل سورية، الذي يعتبر من أهم حلقات المنطقة العربية.
كان الشعب السوري يرقب حراك النظام ويردد لعل القادم يساهم في تحرير أرض ما زالت محتلة وجزء من الشعب السوري ما يزال يرزح تحت نير الاستعمار. لكن كل هذا الانتظار ذهب عبثاً، فالأرض المحتلة لم تحرر وحرية الرأي بقيت شعارا يرفعه النظام كلما أراد تجميل صورته. وعلى ارض الواقع كانت الاعتقالات وتكميم أفواه كل من له رأي مخالف، فلا اصلاحات سياسية حصلت ولا تغيرت الممارسات القمعية لأجهزته الأمنية. استطاع النظام على مر السنوات الماضية الحفاظ على امساكه بمجموعة من الملفات على المستوى الأقليمي ليزايد بها على الشعب السوري، واستثمرها كلها ليديم حالة القمع والسرقة والنهب بالداخل السوري، وباسم محاربة المشاريع الخارجية وباسم تحرير الأرض المغتصبة ديس على كل خيارات التغيير الديمقراطي، الذي سعت اليه النخب السورية المختلفة.
كل هذا الأمور لم تكن غامضة أو خافية ولم تكتشف حديثا، إلا أن وعود الإصلاح التي لم تتحقق، أوصلت السوريين الى قناعة انه ليس بالإمكان انتظار اصلاح من نظام لا مقومات لديه لإجراء أي شكل من أشكال الإصلاح، فكل تغيير في سورية ينظر له هذا النظام على اعتباره يشكل تهديداً لوجوده، خاصة أنه أورث المجتمع السوري ارثا ثقيلا في ثمانينيات القرن الماضي، زعزع المجتمع وهز وحدته الوطنية وهو يدرك الى الان أن هذا الملف ما زال جرحاً مفتوحاً ولا يتجرأ أبداً على الاقتراب منه لازاحة آثاره على المجتمع السوري وأجياله القادمة. ومع فهم وادراك الوطنيين السوريين لفداحة اغفال هذا الملف وتأثيره على النسيج الاجتماعي وتهديده للوحدة الوطنية السورية بادروا في المرحلة الماضية على صياغة برنامج سلمي وهادئ للتغيير، يساهم في حفظ وحدة المجتمع ويعزز تماسكه، يساهم في تحديث مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويشيع روح الديمقراطية والحرية في الوطن، ووضع هدفاً له في اجراء إصلاحات توصل الى إشراك الشعب بالسلطة من خلال ممثليه، الذين ينتخبهم عبر صناديق اقتراع، هذا الاصلاح التدريجي هدف في اعادة سورية الى الحياة المدنية الدستورية في نظام ديمقراطي حر.
أثبتت السنوات الماضية أن النظام في سورية ورأسه لا يفقه هذا الفهم لموضوعة الديمقراطية واستحقاقاتها، ولا يستوعب تماما هموم النخب والناس الذين يريدون وبوضوح كف اليد الأمنية وتفكيك أجهزتها التي أرعبت المجتمع على مدى عقود مديدة. يظن النظام أنه بتلويحه باجراء إصلاح سوف يقدم مكرمة يتحسن بها على المجتمع، كزيادة راتب ورفع شكلي لقانون الطوارئ، والحديث عن إطلاق قانون حديث للأحزاب. يلوح لنا بقانون يستلب من خلاله اي امكانية لوجود احزاب حقيقية، فهو لديه نموذج يرغب في استنساخه، حيث يشرع لأحزاب كي يضمها لخزانة محتوياته الدعائية، كما يفهم من الجبهة الوطنية التقدمية الموضوعة’في ‘الفاترينة’ تخرج الى العلن فقط ساعة حاجته لها. يتحسن عليها ببعض الهبات من المال والسيارات، مقابل شراء الضمائر والذمم وتكفلها بالابتعاد عن أي شأن يخص تطوير ونقاش آليات تطوير هذا الوطن.
هذا الفهم الإقطاعي لسلطة مستبدة أعطيت من الفرص الكثير لتحسن شروط الانتقال السلمي للديمقراطية، إلا أنها وكما كل الأنظمة المارقة، تعتبر نفسها مؤبدة ووارثة للوطن. مزرعة تستحلبه وتستعبد شعبه. فاتها ان هذا الشعب يصبر لكنه عندما يطفح الكيل به يثور، وها هو يثور وينتفض ويحدد مطالبه باسترجاع كرامته المهدورة وحريته المسلوبة، بما يعني إنهاء ظاهرة التفرد والاستفراد ببلد كسورية حاضنة التاريخ والمناط بها دور ريادي من اجل حل الكثير من القضايا العالقة وأولها قضية وحدة المجتمع السوري وحل كل الاحتقانات، ومعالجة كل الأمراض الذي فرخها النظام وغذاها من اجل إحكام سيطرته وتأبيد حكمه.
ها هو النظام اليوم يدير ظهره لكل أحلام وهموم الشعب ويسفر عن وجهه البشع بقمعه لكل الاحتجاجات والمظاهرات عوضا عن تأطير كل المطالب بحاضنة وطنية تستطيع الاجتماع والحوار بكل تفاصيل القضايا التي تعيد لسورية وجهها الحضاري ودورها الريادي، بعد ان يتصالح المجتمع ويبدع مناخه الحر من خلال إبعاد حالة الرعب الأمنية وتفكيكها ومحاسبة كل جلادي شعبنا وسافكي دمائه.
النظام اليوم لا يطل بوجهه القمعي فقط بل ولا يلتفت لكل هذه الأصوات التي حاولت وتحاول تحفيزه على تحقيق اصلاحات حقيقية في سورية، بل على العكس فانه يمارس أبشع أنواع الذل والمهانة، من خلال إفلات قطعانه الأمنية وصبيان ‘شبيحته’ يستبيحون دماء وحرمة وكرامة المواطنين في درعا وحمص وبانياس ودوما، بالإضافة لجره الجيش الى مواجهة الشعب، متذرعا بحجج واهية ومنطق يسوده الدجل، وكذب صريح، ويطل علينا إعلامه السخيف الذي لا يحترم أي عقل، ولا’يراعي حرمة، ويستهين بكل مشاعر الضمير الإنساني، بل يمارس نوعا من القمع منقطع النظير على فئات من شرائح المجتمع من الذين لا يملكون تجاه لقمة العيش والقمع سوى الرضوخ لمنطقه وتدبيجهم إعلامه وهم يعرفون أنهم بذلك يفقدون أعز ما يملكون، الكرامة والضمير. نحن ندرك ان هناك الكثير ممن باعوا أنفسهم للشيطان، ولا فرق لديهم فالكذب والدجل والتلفيق والتزوير أصبح الهواء الذي يتنفسونه، يدفع بهم النظام كي يكونوا واجهة لتلفيق أكاذيبه ولتوزيع التهم على كل من يعارض. لكن كل هذا لم يصمد أمام المنطق والعقل، فالنظام معروف وحاصل على شهادة امتياز بالقمع والفساد والتزوير ومصداقيته لا تتجاوز الصفر، وهذه حقيقة يعرفها القاصي والداني. ناهيك عن المواطن السوري الذي يتجرع مرارتها يوميا. لهذا ايضاً يلجأ النظام الى ان يفرض وبكل صلافة على شرائح اجتماعية فنية ورياضية وثقافية ونسائية الظهور الاعلامي لتمرير كذبه وتدجيل فتنته وعبث قمعه، واستمراء استباحته للبلد بشعبه وجيشه وبيوته وكرامة مواطنيه، وهذا ما لا يغفره المواطن السوري لكنه يعرف بأن كثيرا من الألسن تتحدث بعكس ما تؤمن نظراً لخضوعها للابتزاز. كما ان المواطن السوري يدرك اليوم وبكل وضوح كذب وتدجيل النظام عن المشاريع الخارجية وتدخلاتها، فها هو يمسك بها ورقة وفزاعة بوجــه شعبه، الذي يثبت أصالته وشرف وطنيته، من خلال رفضه للتدخل الخارجي والذي يؤكده دائما ويحرص ويشدد عليه، بالوقت الذي يصر النظام وبكل صلافة على إنهاء حكمه الذي لم يكن مطروحا وإسقاط تسلطه بعد أن اختار استباحة دماء شعبه واستسهال إراقته، وبهذا يقدم عنقه غير مؤسوف عليه.
‘كاتب وشاعر’سوري’يقيم’في’برلين