يكاد المريب…
نهلة الشهال
زعل وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، من «ميوعة» مؤتمر أصدقاء سوريا، الذي انعقد منذ أيام في تونس العاصمة. ويبدو أنه انسحب من الاجتماع غاضباً، شاتماً، قائلاً باشمئزاز إنه لم يحضر الى هنا لتوفير مساعدات إنسانية للشعب السوري، ولا يريد «تسمين الفريسة» ليأكلها بعد ذلك الأسد! وهذه كلمات الأمير حرفياً. هو يريد قرارات حاسمة، ولا يفهم لماذا لا يُتخذ قرار بالهجوم على سوريا ما دام نظامها «فقد كل شرعية وصار أشبه بالاحتلال». مجدداً، هذه كلمات الامير حرفياً.
دعك من سؤال الامير عن تعريفه للاحتلال، عن المفهوم ومحدداته. ودعك أيضاً مما فعلته مختلف السلطات العربية لتسهيل الاحتلال الأميركي للعراق ودعمه. دعك من نقاش السلوكيات العربية والدولية تجاه أنظمة أخرى فاقدة للشرعية، وعما إذا كان هناك مخطط للعمل على إسقاط من يفقد شرعيته منها، وما هي الشرعية وكيف تحدد. ودعك من المسلك العربي (اللطيف جداً) مع الاحتلال الاسرائيلي، وهو المُقَرّة صفته الاحتلالية تلك من قبل الهيئات الدولية نفسها، وليس تقديراً أو استنساباً، ولا يجدي بصدده ممارسة براءة مصطنعة، وإطلاق «فكرة» (تتكاثر الافكار اليوم) «التوجه الى مجلس الأمن للتحقيق في إجراءات تهويد القدس»، على ما اقترح البارحة أمير قطر في مؤتمر القدس من الدوحة، لزوم التوازن.
يجد الامير سعود «فكرة تسليح المعارضة ممتازة». الفكرة لم تعد فكرة، بل هي قائمة على قدم وساق، بقرار ومن دونه: أنظر «الخبراء» الأجانب الموجودون فعلاً في سوريا وعلى تخومها، يتولون تدريب القوات المعارضة، الجيش الحر وكل من يشاء. وهذا ليس سراً، ليس لأن وسائل الاعلام تتناقل أخباره، بل لأنه معلن كواحد من المطالب السبعة الواردة في بيان المجلس الوطني السوري الى مؤتمر أصدقائه. «الفكرة» هي في الواقع تنظيمٌ لتذابح السوريين فيما بينهم (يسمى ذلك «دفاعاً عن النفس» ويتخذ من بشاعة القتل الذي تمارسه السلطة في سوريا حجة). ويحدث ذلك اليوم ما دام لا جهة قررت ـ حتى الآن ـ إرسال قوات لمقاتلة الأسد. وهذا قد يتغير قريباً إذا صدَّقنا باراك اوباما، فتتجسد أخيراً استخدام «كل الأدوات المتوفرة لمنع المجازر» التي أعلن عنها. تعمل على بناء ذلك لوجستياً تركيا مع فرنسا، وسيتطلب الأمر مساندة من الآخرين، فلكل دوره فيها. وعنوان الخطة هذه هو «الممرات الانسانية». ولكن واشنطن تعمل على خطط أخرى، تحبذها، ومنها تنظيم انقلاب عسكري في سوريا على ما أوحت السيدة كلينتون في تصريحاتها من تونس نفسها، عقب مؤتمر الاصدقاء ذاك. وقد يكون الإعلان مجرد تمنٍّ «تشجيعي»، وقد يستند الى معلومات خاطئة تزود واشنطن بها بعض المعارضة المتكسِّبة، في تكرار للسيناريو العراقي، حيث لعب الجلبي وصحبه في «المؤتمر الوطني العراقي» هذا الدور. والجلبيون السوريون كثر اليوم. ولكن هذه الاخبار لا تفعل سوى دفع النظام الى المزيد من العنف، تطلباً لحسم الامور واستباقاً لتطورات من هذا القبيل.
يضيق الامير ذرعاً بكل تلك المناورات، ومن الاضطرار الى الالتفاف على الفيتو الروسي والصيني بإنشاء «مؤتمر أصدقاء الشعب السوري» كإطار بديل عن الشرعية الدولية حين لا تناسب هذه، في لحظة نادرة، الهوى الأميركي/الاسرائيلي، وبالاستتباع التركي والخليجي. لا سيما أن هناك اضطراراً لبناء «شرعية» هذا المؤتمر بالتدريج: اجتماع أول اليوم في تونس، يليه بعد ذلك بثلاثة اسابيع آخر في تركيا، وبعده ثالث في باريس. هل قلتم باريس؟؟ تستخدم تركيا هذا الخط للي ذراع فرنسا بشأن إقرارها لقانون تحريم إنكار مجزرة الأرمن، فما زال ثمة وقت ليطعن المجلس الدستوري الفرنسي بالقانون الذي اقره السياسيون. يتدلع داود أوغلو مشيراً الى «ظروف» قد تمنعه من الحضور الى باريس، وهذا يسمى في اللغة السينمائية «ترتيبات صغيرة بين أصدقاء».
باريس! ألم يُفبرك من باريس التحالف الدولي/الأطلسي الذي دُفع الى ارتكاب الهجوم على ليبيا؟ وهذه الاخيرة «تتصومل» اليوم (سياسياً فحسب، فالبلد نفطي). وليس في التعبير أدنى مبالغة، بل يشير الى ذلك أركان سلطتها الانتقالية الذين يخرجون من اللعبة الواحد بعد الآخر. وعلاوة على مصيرها الذاتي المقلق، تتحول ليبيا اليوم الى نقطة ارتكاز وعبور لمجموعات مسلحة وحده الله يعرف ماهيتها: اسألوا الجزائر والمغرب ومصر. اسألوا تونس نفسها حيث عقد مؤتمر الاصدقاء هؤلاء. اسألوهم عما تبذله استخباراتهم من جهد لاحتواء ما ارتُكب في ليبيا، ولاحتواء السلاح الذي وزع عشوائياً على مجموعات عشائرية أو جهوية أو سياسية، وعلى الناس عموماً. ترى تلك الدول المحيطة، (ومعها الاخرى الافريقية غير العربية) أن نتائج الحدث الليبي باتت تهددهم مباشرة، وتتشارك في الهم نفسه الأنظمة القديمة وتلك التي جاءت بها الثورات. هل قلتم باريس؟ مؤتمر الاصدقاء فيها بعد شهر ونصف أو شهرين، أي عشية انتخابات الرئاسة التي تشير كل الاستطلاعات الى تراجع حظوظ ساركوزي في الفوز بها. ترى، ما الذي يمكن أن يرتكبه الرجل حينذاك ليقوي فرصته، وبما لا دخل لسوريا ومصالحها في حساباته؟
خائبُ أمل آخر في المؤتمر العتيد هو الدكتور برهان غليون رئيس «المجلس الوطني السوري». فعلى الرغم من قرار المؤتمر «الاعتراف بالمجلس ممثلاً شرعياً للسوريين الساعين للتغيير»، يرى الدكتور أن القرار نسي كلمة «وحيد»، وفوت عليه فرصة التربع على كرسي مطلق التمثيل. ولأن المؤتمرين لا «يثقون» بالتشكيلات الأخرى للمعارضة، إذ لا يتحكمون بمواقفها، بينما هم ركَّبوا المجلس بأنفسهم، أو قل قامت أجهزتهم بالمهمة، فهم لا يريدون السماع ببساطة بوجود أطر أخرى للمعارضين السوريين. وهكذا، حضر ممثلون عن هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديموقراطي للمشاركة، ولكنه قيل لهم إن عليهم قبلاً الانضواء في المجلس، مما دفعهم للإعلان من تونس عن مقاطعتهم للاجتماع. هذا ناهيك عن سائر التشكيلات المعارِضة، وآخرها «المنبر الديموقراطي السوري» الذي تشكل قبل المؤتمر بأيام، وعقد في القاهرة اجتماعه الاول بحضور لافت لعشرات المثقفين السوريين الوازنين، ولمناضلين ميدانيين من الشباب، وعين مهمته الأساسية بأنها بلورة «الخط الوطني» المعارض، ذاك الذي يناضل في آن واحد ضد النظام الفاسد والقمعي، وضد انتهاش جسد سوريا من قبل الطامعين. وأعلن بأن سوريا بلد موحد، لا تدخل في قاموسه للتغيير الوطني الديموقراطي مخططات التدخل الخارجي والتطييف الممارس. وهؤلاء بالطبع يصنفون في باب أعداء مؤتمر تونس.
السفير