يوسف عبدلكي: نحتاج لعقود حتى نتمكن من تقديم اللوحة التي تعبر عن المأساة السورية
زهرة مرعي
بيروت ـ ‘القدس العربي’: تسيل لوحات الفنان التشكيلي السوري الشهير يوسف عبدلكي موتاً وفجائعية. اختار لعرضه البيروتي الفحم دون سواه من الألوان ليقول ما يريده عن مرحلة عاصفة من تاريخ بلاده والمنطقة. في كل لوحة من الثلاثين المعروضة موضوع يستدعي التدقيق في حناياه الظاهرة والخفية. حتى الأزهار التي قدمها موشحة بالسواد حملت دلالة على أن الحزن السوري الكبير توزع على كل ما في البلاد.
في غاليري تانيت ـ مار مخايل الأشرفية، حيث اختار عبدلكي عرض أعماله من 5 حتى 8 شباط، تشعر بهالة ورهبة الموت المقيمة. تقف اجلالاً أمام العديد من اللوحات التي تمثل الشهادة بجنائزية قاتمة. هي لوحة الأم التي تكاد تتحد بصورة ابنها الشهيد. وللشهداء حيزهم الكبير في أكثر من لوحة. الموت لم يكن بالنسبة لعبدلكي منتشراً بدءاً من الحدث القريب. بل هو صهره بين الحاضر والماضي فاستحضر ‘القديس مار يوحنا فم الذهب مسجى في جامع الحسين بحي الميدان بدمشق’. هذا ما كتبه على لوحته المستطيلة ذات الحجم الكبير، ليبوح بما يراه حقيقة عن واقع سوريا. وهو في أكثر من لوحة عمد إلى الكلام مكملاً لأفكاره التشكيلية. إلى شهداء دوما تطلع الفنان سابراً أغوار الموت وما يخلفه من انسحاق للروح، فكان الرأس البشري مقطوعاً وحيداً دون جسد، وفوقه كتب بحبر الدم الأغنية الشعبية الفلسطينية التي تؤديها سناء موسى: يا نجمة الصبح فين فين علّيتي.. الأجواد أخدتي والانذال خليتي.. نذراً عليّ إن عادوا أحبابي إلى بيتي.. لأضوي مشاعل.. وأحني العتابا.
حتى وإن نثر عبدلكي الأحمر في بعض لوحاته، فهو غالباً ما كان على شكل دم. فالوردة بحد ذاتها نضحت دماً. والسمكة خنقت. والعصفور نحر. أما ذاك القلب المنحور بدبوس يخترقه من جهة لأخرى فمثل قمة الألم التي يمكن أن تجتاح كائناً بشرياً. لم يغب عن الفنان المسكون بألم شعبه، والذي يقاوم بكل ما لديه من قوة طلباً للحرية أن يهدي ازهاراً للأطفال الشهداء ‘ازهار إلى حمزة وليال وكافة الاخرين’.
عن هذا المعرض السوري الذي حط الرحال في رحاب بيروت كان هذا الحوار مع الفنان يوسف عبدلكي:
*لم ترسم ومضة ضوء. بهذا القدر الحياة تراجيدية؟
* بعد آخ طويلة قال: إن كان لديك الكثير من مساحات التفاؤل والضوء أرجوك دعيني اراها؟ الوضع الانساني مأساوي جداً. ووضع المجتمعات التي تعيش حالة حرب مأساوي أكثر بكثير. في ظروف من هذا النوع من المؤكد أن حجم الألم والوجع أكبر بكثير من حجم الفرح.
*ماذا عن ولادة وعمر اللوحات الثلاثين التي تضمنها المعرض؟
* بعضها يسبق الثورة السورية بسنة أو بأشهر، وبعضها الآخر تزامن معها.
*عبرت بفيض عن مكنوناتك بالريشة لكن لماذا اضفت الكلام إلى بعض اللوحات؟
* اعتقد أن الوضع السوري مأساوي بامتياز. وأظن أننا نحتاج لسنوات طويلة حتى نتمكن من تقديم لوحة حقيقية تعبر عن المأساة السورية. وأظن أن كل من يعمل اليوم، وأنا منهم عن وضع بلدنا ينفذون هذا العمل بضغط سياسي، عاطفي أو جداني وهم في قلب العاصفة. في وضع من هذا النوع من يتمكن من انجاز اللوحة التي تعبر بعمق عن هذا الحدث يحتاج لزمن أطول بكثير. من ضمن الأمور التي اعتبرها مؤثرة وتضغط عليَ كما تضغط على غيري من الناس هو المخزون الأدبي والغنائي الجماعي الموجود في ذاكرتنا. وفي أحيان صرت أرى ترافق الكلمة مع الحدث. باعتقادي أن بينهما مفارقة كبيرة. ففي أحيان تكون الكلمة من أغنية عذبة، وأحياناً تكون أغنية شعبية تحكي عن وجع خاص. الأمر الذي يدفعني لوضع هذا الكلام مع اللوحة هو أن هذا ما يمكن أن يفضي لنوع من مفارقة، وبالتالي يؤدي لقوة أكبر في التأثير على المتلقي. أضع هذا الكلام لأنه وكما قلت لك صار جزءاً من ذاكرتي، وبغض النظر عن استعمال أو عدم استعمال الكلمة، الرسم يكفي أو لا يكفي، فهذه بالنسبة لي جميعها تفاصيل لا قيمة لها. احساسي تجاه هذه الكلمة أو هذه الأغنية، أو هذا البيت من الشعر، هو بضرورة وجوده هنا، فأضعه. في الحقيقة أمام هذه العاصفة السورية تكون الحسابات الفنية البحتة هي حسابات صغيرة.
*قلت ان الحدث السوري أليم جداً ويلزمنا زمن للتعبير عنه. هل بدأت تكوين غيرنيكا سورية في مخيلتك؟
* التفكير بهذه المسألة من المؤكد بحسب ظني أنه خطر في بال عشرات الفنانين السوريين. كما وأظن أن عشرات الفنانين بصدد تنفيذ أمر من هذا القبيل خلال الأشهر والسنوات المقبلة. وأكيد أني أحدهم. ليتمكن أحدنا من هضم واستيعاب ما يحدث ومدى ابعاده، يحتاج لوقت أطول بكثير ليتمكن من التعبير بعمق عن الواقع، والدم الذي فيه، والبسالة التي فيه.
*الرسم طريقة تعبير. كم يشعرك التعبير بالرسم بالحرية وكم يشعرك بالأسر؟
* الرسم بالنسبة لي هو فسحة الحرية التي اتمكن من التعبير من خلالها تماماً حتى عندما أكون بصدد انجاز لوحة عن الشهيد، أو عن الأسير، وأي قضية مأساوية مضرجة بالألم. أكيد الرسم بالنسبة لي كما الكلمة للشاعر والنغمة للموسيقي، حيث هي فسحة الحرية الحقيقية في حياته.
*لفتني رسم القلب مغروس فيه الدبوس..
* هي لوحة منجزة في وقت سابق للثورة. وهذا يعيدنا للسؤال الاول المطروح من قبلك. اعتقد هناك حجم من الألم في حياة البشر أقسى بكثير مما يتصوره كثير من الناس. هو حجم ألم من الغربة عن المجتمع والناس،ألم من وحدتهم، ومن قسوة الشروط المحيطة بهم. هو أمر في الحقيقة يحطم الأعصاب والوجدان، والتوازن الداخلي لأي انسان. وتالياً للتعبير عن هذه الحالة لم أجد صورة أفضل من هذه.
*أن يسبق هذا القلب المغروس بدبوس الثورة فهل هو توقع لها؟
* أن يقال ذلك عن أي رسّام، فهذا يدغدغ شعوره. لكني اعتقد أننا كمواطنين وكناس لنا علاقة بالعمل الثقافي أو بالعمل السياسي، أن أحداً لم يكن يتوقع حدوث الثورة قبل يومين على بدئها. كانت لدينا آمال وطموحات أن يتحرك بلدنا، أن يتحرك شعبنا. وأعتقد أن الثورة التونسية والثورة المصرية تركتا آثاراً كبيرة جداً، وهما من أعطيا الأمل للسوريين بإمكانية التحرك والحصول على حريتهم. بدون أية مبالغة وبدون أي غرور لم يتوقع أحد قبل أيام أن يحث ما حدث، وبالتالي جميع الناس الذين يحكون عن آلام الأفراد، أو يحكون عن أحلامهم لم يكونوا يتوقعون الثورة في الحقيقة. هذا جزء من الحراك الذهني الخاص بالمثقفين وغير المثقفين، لكن الحدث السياسي الذي اسمه الثورة السورية ما من أحد كان يتوقع حدوثه، وليس بهذا الحجم. ولا أن ينتهي إلى هذه المآلات التي لا علاقة لها بالثورة. الثورة استمرت لأشهر طويلة بقوة السوريين وبإيمانهم وشجاعتهم وبسالتهم وسمو اهدافهم، أما اليوم فأصبحنا في مكان ثانٍ. الثورة تحولت لحرب اقليمية ودولية على الأرض السورية وبالدم السوري.
*خنقت السمكة ونحرت العصفور. ما هو حجم الصراع والتوق للحرية لديك حتى انتجت ما شاهدناه؟
* لفتتك لوحات ما قبل الثورة وتسألين عنها. ما أحكيه عن السمكة هو نفسه ما حكيته عن القلب والدبوس ولا اضافات أخرى.
*بماذا تفسر وجود الأحمر في اكثر من لوحة؟
* للأحمر وقعه في تاريخ الفن في العالم أجمع. قيمته الرمزية لا تخفي نفسها. الدم السوري الذي يفيض منذ ثلاث سنوات كذلك لا يخفي وطأته الهائلة على عقول وعواطف ووجدان كل السوريين وحتى غير السوريين. وبالتالي من الطبيعي استعماله دون أي لون آخر.
القدس العربي