يوميات الحزن العادي!
أمجد ناصر
ربما يكون كتاب ‘يوميات الحزن العادي’ أول علاقة لي بنثر محمود درويش. لا بدَّ أنني وقعت على مقال له هنا، مقال له هناك غير أن تلك المقالات لم ترسم صورة واضحة لدرويش الناثر في ذهني. صورة الشاعر كانت هي الطاغية، وأزعم أنها ظلت كذلك حتى آخر لحظة في حياته، فلم يترك محمود لأي نشاط آخر (أدبي، سياسي، صحافي) أن يتنازع مع الشعر، ولا لأي لقب آخر أن يغلب لقبه كشاعر. وهو بهذا يختلف عن كثير من الشعراء العرب والأجانب الذين زاوجوا بين الشعر والبحث، الشعر والترجمة، الشعر والنقد، الشعر وأدب الرحلة أو الأمكنة، أو الشعر والرواية بصرف النظر عن مدى نجاحهم في هذا التزاوج. لكن هذا لا يعني أن درويش لم يكتب سوى الشعر. لقد كتب، كما نعرف، الكثير من النثر سواء الوظيفي المباشر (مقالات للصحافة) أو الأدبي الذي وضعه في كتب قائمة بحد ذاتها وليس جمعا لمقالات متفرقة.
لمحمود اعتراف خطير بخصوص نثره أدلى به الى الشاعر الصديق عبده وازن في حواره الطويل معه (نشر في كتاب عن دار رياض الريس لاحقا) يقول فيه: ‘كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها، علماً انني من شديدي الانحياز الى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من الشعر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ الى النثر وأمنحه وقتاً أكثر وأولية جدية أكثر’!
وقد فعل دوريش شيئاً من هذا في كتابه النثري الأخير ‘في حضرة الغياب’، ولا زلت أصر على أن كتابه ‘أثر الفراشة’ الذي سماه ‘يوميات’ هو، في جزء كبير منه، قصيدة نثر تتخفى وراء قناع اليوميات.. لكن القدر لم يمهل محمود طويلا كي يتفرغ لاعطاء نثره ‘الهوية’ التي كان يفكر فيها والتي تجلت، على ما أظن، شكلا وموضوعا في ‘حضرة الغياب’.. وقبله في ‘ذاكرة للنسيان’.. أو هذا ما أتصوره.
‘ ‘ ‘
جُمِعَت أعمال محمود درويش الشعرية، في حياته، أكثر من مرة، بل تولت إصدار مجلداتها أكثر من دار نشر عربية منذ أواسط سبعينات القرن الماضي. لكن أعماله النثرية لم تجمع في اطار ما يعرف بالأعمال الكاملة أو الناجزة. كان بإمكان درويش أن يصدر هذه المؤلفات في أكثر من مجلد لكنه لم يفعل. ربما لأنه رأى أن صيغة ‘الأعمال الكاملة’ تليق بالشعر لا بالنثر، وربما لأنه أرادها أن تبقى في كتب منفصلة تحمل وسم لحظتها وظرف كتابتها. بدأ محمود درويش ناثراً في فترة قريبة من انطلاقته الشعرية في الأرض المحتلة. فما ان بدأ اسمه يلمع في وسط ‘عرب الداخل’ حتى راحت القوى السياسية تحاول استقطابه. فاز في هذا المسعى، كما نعرف، الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي شهدت صحافته انطلاقة درويش الناثر. عرفنا شعر دوريش في تلك الفترة ولم نعرف نثره. فأعماله التي نشرت في فلسطين المحتلة أعيد نشرها في القاهرة وبيروت. صحيح أن درويش أعاد النظر في بعض تلك الأعمال و أجرى تعديلات على قصائد بعينها ولكنه لم يستثن منها، على حد علمي، سوى عمل واحد نشره في فترة مبكرة من حياته. هناك، والحال، فجوة في كتابات درويش النثرية، هناك فترة محذوفة هي فترة كتابته في صحافة ‘الداخل’. تلك كتابات لم يحرص محمود على جمعها أو حتى الاشارة إليها.
‘ ‘ ‘
مع ذلك يخطر لي أن نثر محمود درويش اختلف باختلاف المراحل السياسية أو الظروف الشخصية التي مر بها. تمكن ملاحظة الجانب الوظيفي السياسي في بدايات كتاباته النثرية. علينا أن نتذكر أن درويش عُرف في العالم العربي أولا من خلال شعره الذي وقع على ترقب سياسي وثقافي عربي حيال فلسطين المحتلة. الشعر أولا عند درويش ثم النثر. طبعا هذا كلام قد يقال عن كل الشعراء حيث يتقدَّم الشعر على أي نشاط آخر ولكن هذه ‘القاعدة’ لم تعد صارمة في حياتنا الثقافية حيث يزاول الشعراء عملا في الصحافة يجعل ممارساتهم النثرية وتدخلهم في الشأن العام أمرين يصعب تفاديهما. فعل دوريش أيضا هذا في صحافة الأرض المحتلة. لكن نصوصاً نثرية قليلة من تلك الفترة تسربت الينا. فمحمود كان حارسا يقظا تجاه منجزه وما يرغب في نشره واذاعته على القراء. هكذا لم نر كتاباته النثرية في صحافة فلسطين المحتلة عام 48 لأنه لم يرغب هو في ذلك وليس لأنها غير موجودة.
ممارسة درويش لدور حارس النص يتعلق بحرصه على ما يمكن أن نسميه ‘المستوى الفني’. كان هذا هاجسا عند درويش. لكن الأمر لا يعني اعلاء الجمالي على السياسي أو الوطني. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن هناك خطين في نثر درويش المنشور: مواكبة الحال السياسي والوطني العربي والفلسطيني بقدر قليل من العدة الجمالية والبلاغية وفضاء هذا الخط هو الصحافة سواء كانت اسبوعــــية أم دورية.
ثم هناك نثره الذي يضعه في أعمال مخصوصة أو ذات موضوع واحد، وهذه تقع في كتابين كما سبقت الاشارة هما ‘ذاكرة للنسيان’ ثــــم ‘في حضـــــرة الغياب’ الذي أعتبره امتدادا للأول رغم أن الدافـــع الرئيسي لكتابة الأول هو حصار بيروت بينما لا يوجد سبب معلن لكتابة الثاني سوى ما لم نكن نتوقعه وكان يهجسه في أعماقه: موته. هذا عملان يختلفان كثيرا عن نثره في الكتب التي كانت محصلة لمقالات متفرقة جمعت بين دفتي كتاب.
من نافل القول إن درويش من سادة النثر العربي، رغم الشعرية الكثيفة التي تطبع بعض هذا النثر وتكاد تنقله من خزانة النثر الى خزانة الشعر. شعرية النثر ليست أمراً ممتدحا ولا مذموما بحد ذاتها. الأمر يتعلق بكيف تفعل ذلك؟ إلى أي حد يتوازن النثري والشعري فلا يطمس النثري لصالح الشعري اللفظي؟ أي دور يؤديه الطابع الشعري في النثر وهل يعيق البعد المعرفي أو الوظيفي المفترض في النثر؟ درويش فعل هذا في بعض أعماله ولم يتمكن من تحقيقه في بعضها الآخر. مشكلة درويش أن شعريته طاغية وغنائيته فائضة. هو كان يعرف ذلك. صراعه، حسب ظني، كان لكبح طغيان الغنائية والتدفق التلقائي للشعر الذي يأتي، أحيانا، في غير مكانه. تصوروا شاعراً يكافح ضد كثرة الشعر عنده؟! شبه جازم أقول إن درويش كان يفعل ذلك.
القدس العربي