يوميات القراءة لألبرتو مانغويل
يخوض ألبرتو مانغويل في كتابه ( يوميات القراءة: ترجمة عباس المفرجي، ومن إصدارات دار المدى/ دمشق 2008 ) تجربة فريدة في طريقة وكيفية القراءة. ومن ثم الكتابة عمّا قرأ، وذلك بالعودة إلى اثني عشر كتاباً سبق له وأن قرأها منذ زمن بعيد. ليعيد قراءتها ثانية بتوزيعها على اثني عشر شهراً ــ كتاب واحد لكل شهر ــ مع تدوين ملاحظات وانطباعات وأفكار عنها في شكل يوميات. وفي الغالب يختار تلك الكتب الممعنة في غرائبيتها وخياليتها ليدخلنا إلى عوالمها.. بادئاً بكتاب ( اكتشاف موريل ) لأدولفو بيوي كاسارس، والذي يحكي عن “رجل ينزل في جزيرة يكتشف أنها مسكونة بالأشباح”.
لماذا هذا الرجوع إلى القصص القديمة، والكتب التي اطلع عليها في سني مراهقته وشبابه؟ أهو استعادة لنكهة أيام مضت.. للأزمنة السعيدة التي ولّت وإلى الأبد؟. يعلمنا أن الكتاب الثاني الذي سيحدثنا عنه هو رواية ( جزيرة دكتور مورو ) لمؤلفها أتش. جي. ولز، يملك نسخة منها مذ كان في الثانية عشرة. والكتاب هدية من صديق بمناسبة عيد ميلاده. وقد قرأه في العطلة الصيفية، وكان ذلك صيفاً سعيداً على حد قوله: “قارئ عذري. في ذلك الصيف عشت… بضعة أيام سعيدة، لم أكن أعرف شيئاً عن قصة هذه الجزيرة، وكنت خائفاً من هذا الشخص الغريب الأطوار الذي يدعى دكتور مورو”. ثم يمضي مع كتب لكبلنغ وشاتوبريان وكونان دويل وغوته وسرفانتس ودينو بوتزاتي وساي شانغون وبراس كوباس.. ونكتشف أن إحساساً بالفقدان يمض روح مانغويل ويجعله يتميز غيضاً وهو يرى الأشياء تبتعد.. وتفاجئه هذه التغيرات القاسية كلها فيما هو يتمنى أن يكون أصدقاءه معه دائماً، والمكان الذي يحب يرغب أن يبقى كما هو. لعلّه ظلَّ يبحث عن تعويض نفسي ومعنوي عن أصدقاء رحلوا، وأشياء وأمكنة غادرته إلى غير رجعة، لائذاً بالقراءة، ولاسيما قراءة الكتب التي كان قد قرأها قبل سنوات ليست قليلة. فالقراءة توقظ في المرء نوستالجيا من نوع ما.. حنيناً إلى أمكنة ضائعة، يمكن أن يستعيدها فقط، من بين سطور الكتب.
ويوميات مانغويل تبدأ في حزيران 2002 حيث نُذر الحرب على العراق تختلج في الأفق. وهكذا تبقى أخبار التحضيرات للحرب ومن ثم شن الهجوم العسكري واحتلال العراق وسقوط نظام صدام في خلفية هذه اليوميات. ويعلن ( مانغويل ) بغضه ورفضه للحرب على الرغم من بغضه ورفضه الشديدين لصدام ونظامه. ويذكرنا ببودريارد وهو يتحدث، بتخريج ما بعد حداثي، عن حرب الخليج ( 1991 ) التي لن تقع، لأن ما تقوله الصور التلفزيونية والخطاب الإعلامي هو غير ذاك الذي يحصل على الأرض.. يقول مانغويل: “شظايا الأخبار عن الحرب الوشيكة تتناوب بكثرة. صور تلفزيونية بلا معنى تعرض مشاهد رتيبة في الصحراء ، وتجمعات غير واضحة من الجنود. وأنا أتنقل بين القنوات استحوذ عليّ شعور مقزز من التفكك، من الشظايا، التي لا ينجم افتقارها إلى المعنى من واقع أنها شظايا أو قطع، بل من واقع أنها تنتمي إلى كل مفكك”. ويلخص المأساة العراقية بمقولةٍ لصديق له ( عراقي ): “أي خيار محتمل لنا بين وحشية صدام، وتطرف القيادات الدينية، والنهم الاقتصادي للولايات المتحدة؟ خياراتنا بين قطع الرأس أو الرجم بالحجارة أو أن نؤكل أحياء”.
في ذهن كل كاتب وهو يكتب قارئ افتراضي. والنقاد يحدثوننا عن قارئ ضمني. غير أن مانغويل في كتابه آنف الذكر يتكلم عن القارئ الحقيقي الذي هو من لحم ودم.. عن تجربته قارئاً.. وفي عرفه فإن مغزى الحياة يكمن في القراءة التي تصبح استعارة لنمط فذ من العلاقة مع النفس والعالم حين يكون الاثنان ( النفس والعالم ) في موقع المرصود.
عرّف سارتر، وبشيء من السخرية، المثقف بأنه الشخص الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه.. أعتقد أن هذا التعريف ينطبق حرفياً على القارئ، ولاسيما القارئ المحترف.. القارئ الذي هو فضولي ومتلصص ويراقب من ثقب الباب برغبة متسلطة في انتهاك حرمات وأسرار الآخرين والتقاط عريهم الخاص.. بهذا المعنى يشبه القارئ بطل رواية ( الجحيم ) لهنري باربوس، ذلك اللامنتمي الذي وجد ثقباً في الجدار الفاصل بين غرفته المؤجرة والغرفة المجاورة في نُزل ما.. وهكذا بقي يمضي ساعات طويلة مراقباً الناس العابرين في تلك الغرفة من غير أن تكون لهم أدنى فكرة عمّن يراقبهم.. إنهم مفضوحون أمام عينيه من غير أن يعرفوا.. وهذه حال شخصيات الورق.. شخصيات الدراما والسرد، يعيشون حيواتهم الخاصة من غير أن يفكروا بأنهم كائنات معروضة، على الدوام، للقراءة، للتعرية.
ما يربط مانغويل بالكتب هو علاقة توله وعشق وانسحار.. قد نقول أنها علاقة حميمة، لكنها أكثر من هذا حتى.. إنها علاقة ممتدة لا تنقطع في أية لحظة.. يقول: “يبدو لي أن الكتب المكوّمة بجانب سريري تقرأ نفسها لي بصوت عال أثناء نومي”. هنا القراءة تغدو إدماناً من نوع ما.. وأحياناً، هَوَساً مرضياً.. شيئاً يتصل بوظائف الجسد.. حاجة بيولوجية مثل تناول الطعام والماء، أو بالأحرى مثل التنفس.
مانغويل لا يقرأ فقط، بل يعي، في كل لحظة، وضعه ودوره ووظيفته قارئاً.. إنه عاشق بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن للكتب.. إنه مثل دون جوان يعجبه أن يسرد لنا مغامراته مع معشوقاته التي هي الكتب.. وأستطيع القول أن مانغويل القارئ هو شخص مركّب من دون جوان ودون كيخوته. فيه أشياء منهما، كلاهما.
يبحث دون جوان عن ذاته في حب مرتقب.. حب مستحيل.. إنه طوال الوقت، في حكايات عشقه، يقرأ ذاته ويقرأ معشوقته علّه يقع على المعنى الأخير ( النهائي ) الذي يفلت منه في كل مرة، ليعاود، من ثم، مغامرته مع واحدة أخرى. وكأن ذلك المعنى ليس إلاّ وهماً محضاً يلاحقه في شكل وساوس وهلوسات.. وكأنه سيزيف مضطراً، مرة بعد أخرى، إلى حمل صخرته، ولكن بمتعة مازوخية، وبإرادته الحرّة..
أهي حرة حقاً؟. وهل يستطيع من تمكن منه إبليس القراءة أن يكف عن القراءة في أي ظرف؟.
كان دون كيخوته ضحية قراءاته بعدما صيّرته قصص الفروسية شخصاً مختلفاً وأضرمت فيه الرغبة في أن يكون فارساً يعتقد أنه منذور لتصحيح أخطاء المجتمع في الوقت الذي لم يعد هناك فرسان، ولم تعد قيم الفروسية تحرّك أحداً… مارس دون كيخوته هربه بطريقته الخاصة.. هرب من الواقع إلى الوهم، وحاول أن يسحب ما مضى، بقوة المخيلة، ليجعله بديلاً عن واقع له سطوة ضارية، ولهذا كان فشله محتماً. كأن ذلك ترجيع لملاحظة ستيفنسون: “مهمتنا في الحياة ليست هي النجاح، بل مواصلة الفشل بكل مرح ممكن”.
ما يدفع دون كيخوتة للخروج إلى العالم الخارجي من أجل تقويمه ليس البحث عن المجد وإنما المبدأ الأخلاقي القائم على حس العدالة، على دراية مؤلمة بأن العدالة مفقودة في هذا العالم. والقارئ، ليس ديدنه المجد بأي حال، وإنما هو دون كيخوته الممسوس بحنينه إلى عالم يستبدل، بفعل الزمن بعض قيمه ويفقد حسّه بالعدالة، وكثيراً من سحره. إذن، فالقارئ، أيضاً، عليه أن يحارب طواحين هوائه الخاصة.
مع مانغويل يتحول الكتاب ذاته إلى علّة أولى، إلى مصدر ومنبع، إلى خالق. والعالم نفسه يبدو وكأنه خارج من كتاب أو صورة في كتاب، أو منعكس عن كتاب. لنتأمل وصفه هذا: “المظهر الأوربي لفندق باليسير في كالغاري، يبدو في غير محله، في هذا المحيط الغرب الأوسطي،يبدو كأنه خارج من كتاب لهنري جيمس. على كرسي منجد بالقطيفة بمسندين وسط نخلات مزروعة في أواني كبيرة، أنتظر سيارة تقلني إلى ( بانف ) مراقباً الشخصيات وهي تدخل وتخرج من قصة”.
ليس هذا وحسب، وإنما أحياناً حتى المؤلف يغدو مخلوق كتابه، مثل سرفانتس الذي أبدع رواية ( دون كيخوته ) إلى الحد الذي اكتسبت معه الرواية من القوة بحيث ظهرت معها كما لو أنها هي التي أوجدت مؤلفها سرفانتس وليس العكس.. يقول مانغويل: “معظم الكتّاب لهم وجود تاريخي، ليس الأمر كذلك مع سرفانتس، فهو في ذاكرتي شخصية من ( دون كيخوته ) أكثر منه رجل حقيقي. غوته، جين أوستن، ديكنز، نابوكوف من الممكن تمييزهم على أنهم كتّاب من لحم ودم، أما سرفانتس فيبدو لي أنه أُبتدع من خلال كتابه”.
أي الكتب تجذبنا، وتستدرجنا إلى متاهاتها؟ لا شك هي تلك التي تُرضي أفق توقعنا.. تلك التي نجد فيها أصداء من تجاربنا الشخصية.. تلك التي توافق أمزجتنا.. تلك التي تجعلنا نتمنى لو كنا نحن كتّابها.. تلك التي نشعر بأنها، بطريقة ما، امتداد لمخيلاتنا.. لن نستمر في القراءة ما لم نجد صلة بيننا وبين الكتاب الذي نقرأ.. يقول مانغويل: “من أجل أن يستهوينا كتاب ما، ربما عليه أن يقيم رابطة من الاتفاق العَرَضي بين تجربتنا وتلك التي في القصة أو الرواية، اتفاق بين مخيلتين، مخيلتنا وتلك المدونة على الورق”. كل قارئ يلتقط شيئاً خاصاً من الكتاب الذي يقرأ.. شيئاً يتناغم مع هذا المزيج المعقد المكوّن من عقله ومزاجه ومشاعره وأهوائه وتحيزاته وموجِّهاته وذائقته.. إنك أمام خيارات واسعة لست مضطراً لقراءة كتاب تنفر منه ذائقتك.
إننا نتجلى في القراءة. وأفضل الكتب هي تلك التي تُرينا بعض مضمراتنا وخبايانا التي نسيناها ربما، أو التي ما كنا نعرف بها أصلاً.. القراءة هي طريقة أخرى، أو هي أحسن الطرق للتعرف على الذات.
منذ اللحظة التي تتعلم فيها القراءة لن تعود بريئاً.. القراءة تورط لذيذ في أحابيل الوجود.. محاورة، ليست مع الكلمات وحسب، بل مع الحياة بألغازها التي لا تحصى.. يعرّف مانغويل القراءة هكذا: “القراءة عبارة عن محادثة، تماماً مثلما يُبتلى المجانين بحوار وهمي يتردد صداه في مكان ما في أذهانهم، فإن القرّاء يتورطون أيضاً بحوار مشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات التي على الصفحة”. حقاً؛ القراءة محادثة، لكنها أكثر من محادثة كذلك. أو هي محادثة مركّبة، متعددة الأبعاد والأصوات.. شخصياً، مع كل قراءة جيدة أجدني في حوار مع آخر، أو آخرين.. القراءة الحقيقية بوليفونية.
يصبح القارئ شريكاً في الكتاب الذي قرأه. والكتب الممتازة التي قرأناها نحس بصلة قربى معها، كما لو أنها لم تعد فقط مُلك كتّابها. والكتاب الذي يترك شيئاً منه في وجداننا نترك فيه شيئاً منا.. الكتاب قبل أن أقرأه ليس هو عينه الكتاب بعد فراغي من قراءته.. لقد حاورت مؤلفه ومخلوقاته وشاطرتهم بعض أفكارهم ومشاعرهم وحقّ لي أن أحس في قرارتي بأن الكتاب الذي قرأته لتوّي صار جزءاً من ميراثي، ومن ممتلكاتي. وحقّ لي، ربما، أن أكتب اسمي إلى جانب اسم مؤلفه، على غلاف النسخة الخاصة بي مثلما “يعتقد ماتشادو دي آسيس ( كما يعتقد ديديرو وبورخس ) أن صفحة العنوان في أي كتاب يجب أن تحمل اسم المؤلف واسم القارئ معاً، بما أنهما يتقاسمان أبوّته”.
هذا الكتاب يعني أولئك المهووسين بالقراءة، المولعين بملاحقة الحروف السود المطبوعة على الصفحة البيضاء، الذين تفتنهم خرير تقليب الصفحات، وذلك العطر السرّي النفاذ الذي ينبعث من كل كتاب يهمّون بفتحه، بلهفة ورهبة. إذ يحمل الكتاب وعداً بسعادة عميقة غامضة، بارتباط حميمي دافئ، بإمكانية خوض مغامرة مفعمة بالإثارة والمتعة والانشداه.
استطاع عباس المفرجي وهو يترجم ( يوميات القراءة ) أن ينقل لنا نبض يوميات مانغويل وإيقاعها.. ذلك التقطيع وإعادة النسج، وتلك الانتقالات في الأفكار والاقتباسات والانطباعات. وكذلك الانقطاعات، والفراغات المتروكة، والهوامش التي تغني الموضوع وتعززه، أي روح هذا الجنس الأدبي المسمّى بـ ( اليوميات ) الذي له قوانينه، وأيضاً فسحته الواسعة الحرّة..
/ سعد محمد رحيم
يمكنك تحميله من احدى الروابط التالية
الرابط الأول
يوميات القراءة لألبرتو مانغويل
الرابط الثاني
يوميات القراءة لألبرتو مانغويل
الرابط الثالث
يوميات القراءة لألبرتو مانغويل
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية،